السبت 27 أبريل 2024 م - 18 شوال 1445 هـ

مترجم: العنف في أفلام هيتشكوك (الجزء الثاني)

الأربعاء 04/يناير/2017 - 01:29 م
The Pulpit Rock
أروى تاج الدين
 


3- الطيور 1962: المرأة السيئة – المرأة الطيبة – المرأة الغامضة – أم – ذنب

أطلق هيتشكوك فيلم الطيور بعد النجاح غير المتوقع الذي حققه المريض النفسي، والتي رفضت شركة بارامونت إنتاجه بدعوى أن الفكرة التي اعتمد عليها بائسة. لكن يكفينا قولاً أنه حينما يتم إنتاج فيلم بميزانية 800 ألف دولار، فيحقق أرباحاً بلغت 40 مليون دولار، فهذا يعني أن المريض النفسي قد لامس عصباً في الثقافة الأمريكية في بداية الستينات من ذلك القرن. أما بالنسبة للطيور فقد اقتبسه هيتشكوك عن رواية لـ دافني دي مورييه، والتي اقتبس من كتبها أعماله المبكرة مثل ريبيكا وجاميكا.

قدم المخرج أيضاً في هذا الفيلم تيبي هيدرن، عارضة الأزياء والممثلة التي لم يكن لها أي تجارب سينمائية، وكانت تقوم بالتمثيل في الإعلانات وبعض الأجزاء القليلة من مسلسلات الكوميديا الأمريكية المنزلية في الخمسينات. شعر هيتشكوك أن هيدرن سوف تكون مثل جراس كيلي أو فيرا ميلس التي أغضبت هيتشكوك وأحبطته لأنها تجرأت وحملت، ونتيجة لذلك لم تستطع لعب دور كارولتا فالديز في فيرتيجو. لا ريب أن أفضل أفلام هيتشكوك على الإطلاق هي التي قدمها وهو في منتصف الخمسينات وبداية الستينات من عمره. من بين هذه الأفلام النافذة الخلفية، والرجل الذي يعرف كثيراُ، وفيرتيجو، والمريض النفسي، والطيور. ومع ذلك خلال هذه الحقبة من إنتاجه الإبداعي أصبح منعزلاً ويعاني من عدم قدرته على السيطرة على زيادة الوزن، وأدمن الكحول، وعرف عنه أنه مخرج صعب المراس، يمكنه أن يحول حياة الممثل في موقع التصوير إلى مأساة، حتى بعد انتهاء العمل. في هذا الوقت، كان يعامل كثير من النجمات اللائي قفزن إلى النجومية وحصلن على جوائز الأوسكار معاملة سيئة داخل وخارج موقع التصوير.

كانت هيدرن، الشقراء الجذابة قليلة الخبرة، بالنسبة لهيتشكوك المرأة التي كان ينتظرها حتى يمكنه تشكيلها وتحويلها إلى نجمة سينمائية سوف يكون لها تأثير تاريخي في أفلامه. فتنت هيدرن بالفرصة التي جاءتها للعمل مع مخرج مشهور، وقبلت بامتنان التوقيع على عقد احتكار لسبع سنوات لصالح هيتشكوك، يضمن لها 500 ألف دولار كدخل أسبوعي. كان هذا الأجر في عام 1961 مبلغ هزيل للغاية، لكن رحبت به هيدرن المبتدأة لأنه يضمن لها دخل لا يقارن بما كانت تجمعه من عروض الأزياء والعمل التلفزيوني، يمكنها به أن تربي ابنتها ممثلة المستقبل ميلاني جريفيث. كان مطلوب من هيدرن أن تؤدي مشاهد يصعب حتى على الممثلات المتمرسات آدائها. في واحد من هذه المشاهد التي لا تنسى هوجمت بوحشية من الطيور الحية، وظلت لأسبوع كامل تعاني من انهيار جسدي وعصبي أدى إلى تعليق التصوير لمدة شهر بناء على تعليمات طبيب شركة الانتاج. هذا المشهد حينما سمعت ميلاني ضجة في العلية، وصعدت لتتحق من الأمر بمفردها فهوجمت من مجموعة كبيرة من الطيور كانت قد خرجت من فتحة من السطح.

الطيور هو فيلم رمزي عن صعوبة إيجاد الحميمية في المجتمع الحديث، فحينما تنشأ علاقة بين شخصين سواء كان رجل أو إمرأة أو علاقة جيرة، ويجدون أرضاً مشتركة بينهم وبين الآخرين ويقررون قبول هذه العلاقات الجديدة في حياتهم، فإن ظروف الحياة تصبع عائقاً أمام مثل هذه العلاقات. وفي الطيور كانت عاقبة المحاولة هي الموت. معظم مشاهد الفيلم تم تصويرها في بوديجا باي الهادئة، وهي عبارة عن مدينة صغيرة خارج سان فرانسيسكو. قدم هيتشكوك من قبل فكرة المدينة الهادئة المسالمة التي يغزوها الشر من الخارج في فيلم ظلال الشك عام 1943 عن طريق زيارة العمل تشارلي لـ سانتا روزا الهادئة. استخدم المخرج تدفق دخان القاطرة الأسود ليكون نذير شؤم لزيارة العم تشارلي لـ سانتا روزا. في فيلم الطيور غزت مدينة بوديجا باي مخلوقات لم يظن أحد أنها مؤذية ولم يرتابوا في أنها سوف تكون خطراً على سكان المدينة.

ميتش برينر (رود تايلور) محامي يزور فرانسيسكو كثيراً ويقيم في بوديجا باي مع أمه (جاسيكا تاندي) وأخته كاثي (فيرونيكا كارتوريت) . وأثناء وجوده في المدينة يلتقي بـ ميليني دانييلز (تيبي هيدرن) في محل لبيع الطيور، وتتظاهر هي بأنها موظفة في المحل حتى تنتهز الفرصة للحديث مع برينر. يكشف ميتش حيلة ميليني وينتقد شخصها بسبب قيامها بالسباحة عارية في نافورة بروما، ثم ينهي الحوار بقوله لها "أراك في المحكمة". لسبب غير مفهوم يزداد اهتمام ميللني بهذا الرجل البارد المظهر وتعبر عن ذلك عن طريق شراء الطيور التي تحبها أخته الصغيرة. تقرر توصيل الطيور بنفسها إلى كاثي على أمل مفاجأتها، وتسافر إلى بوديجا باي بمساعدة موظف المحل (جون ماكجوفرن) الذي يغازلهاز. تحصل على قارب آلي لتسافر به عبر البحيرة إلى بيت برنر. في هذه الأثناء يهاجم طائر القارب ويتسبب في جرح رأسها. يرى ميتش هذا المشهد من بيته ويهرع لمساعدة ميليني ومعالجة جرحها.

أثناء بقائها في بيت عائلة برنر التقت ميليني بـ ليديا والدة ميتش، التي أصاب وجهها تعبيرات الجمود والانزعاج عند لقائها بها. وكمثال على أداء تاندي العظيم، حينما تم تقديم ميليني لها للمرة الأولى، تباطأت الكاميرا على وجهها الذي أظهر سلسلة من الانفعالات بدءاً بالنفور ثم الرفض ثم الاستسلام. هذه اللقطة تخبر المشاهدين أن ليديا لا تريد أن تبقى ميليني في بيتها أكثر مما ينبغي. أثناء متابعتنا لأحداث الفيلم سوف نقوم باستدعاء هذه اللقطة، التي ظلت فيها الكاميرا على وجهها لعشر ثوان، وسنجد أنها كانت تخبرنا من البداية كيف ستسير القصة.

تهيمن ليديا تماماً على ميتش، فيما يسميه الأخضائيين النفسيين اليوم "التعلق المرض بشخص ما" وأحد أعراض هذا المرض هو الاعتماد المفرط على شخص ما من أجل الشعور بالراحة النفسية. وبالتالي ليديا تعتمد بشكل مفرط على إبنها ميتش، الذي يشعر في المقابل بمسئوليته تجاه راحة أمه النفسية. وبسبب هذا العبء النفسي يمتلك ميتش غرفة صغيرة بعيداً عن أمه من أجل علاقاته النسائية، وبالطبع أي محاولة من أي امرأة للدخول إلى حياة ميتش تكون غير مرغوب فيها من جانب ليديا، وتمارس الضغط على هذه المرأة حتى تحبط أي فرصة لتقرب ميتش منها. إذن فالمرأة الوحيدة التي يمكن أن يكون ميتش معها هي أمه ليديا. فيجب أن يكون معها الأبن والزوج والحبيب ليساعدها على تهدئة قلقها، وتتملقه ليساعدها لتشعر بالسعادة.

في مشهد معبر، يقف كل من ليديا وميتش بعد العشاء في المطبخ، وحينما تبدأ باستجوابه بشأن علاقته بميليني يتحول صوتها وسلوكها إلى القسوة. في البداية تسأله كيف ألتقى بها، ثم تلح عليه مثل محام موهوب في السخرية، مشيرة إلى التقارير التي نشرت في الجرائد عن ما فعلته في نافورة روما. إلحاح ليديا يجعل ميتش يدافع عن اختياره ويخبرها أنه يمكنه معالجة أموره. لكن احتياجها وتملكها المرضي عززهما ميتش في نهاية الحوار بشكل خاطئ في نهاية المحادثة: 

ليديا: حسناً ..طالما تعرف ما تريد. 

ميتش: أعرف تماماً ماذا أريد". 

وينتهي المشهد تاركاً المشاهدين في حالة هدوء وتشوش متسائلين من التي يريدها ميتش؟ هل اختياره ميليني أم ليديا؟

تلك العلاقة الغريبة بين الأم والأبن تعززها محادثة ميليني مع صديقة ميتش السابقة آني هايورث (سوزان بليشيت). كان دور بليشيت هنا كحبيبة مهجورة مقنعاً إلى حد بعيد. لا يوجد مكان لها في حياة ميتش بسبب أمه ليديا. ولأنها لازالت تملك مشاعر قوية تجاه ميتش، كان اختيارها الوحيد هو الانتقال إلى بوديجا باي لتكون فقط بقربه. والآن أصبحت هي وليديا أصدقاء بعد أن صارت لا تمثل تهديداً لليديا.  كبحت ليديا مرة أخرى شغفها بالأبن الحبيب، وبتقدم أحداث الفيلم يصبح من الواضح أن ميتش قد اختار ميليني، ثم تأخذ الأحداث مظهراً أكثر قتامة عندما تبدأ الطيور هجومها وتقتل أني ثم تهاجم الأطفال في المدرسة ثم محطة الوقود إنتهاء بمهاجمة ميليني نفسها.

4- فيلم المريض العقلي 1960: الذنب الكاثوليكي – الأم – المراة السيئة – المثلية

قد أصبح من السهل لأي مشاهد بشكل عام ولعشاق أفلام هيتشكوك بشكل  خاص أن يلاحظ التيمات والخصائص المشتركة بين أفلامه وبرامجه التلفزيونية. تربى هيتشكوك كاثوليكي روماني، وأي شخص التحق بالمدراس الابتدائية الكاثوليكية قد تعرض لفلسفة جوهرها يرسخ لفكرة الخطيئة الأصلية. في هذه المدارس يخبرون هذه العقول الصغيرة الحساسة أنهم بالفعل مذنبون وأن عملهم في هذه الحياة ما هو إلا تكفير عن هذا الذنب. يقال لنا دائماً أننا كبشر ضعفاء ومهشمون وعرضة للإغراء ويمكن قيادتنا إلى الضلال بسهولة. والجنس، وبالتحديد، الانصياع وراء الإغراء الجنسي خارج إطار الزواج هو أمرغير أخلاقي. الشهوة، حتى إذا كانت مجرد فكرة، خطأ أخلاقي، وسوف تقود طريقك إلى الجحيم. وأن فخ الخطيئة العالقون به كجنس بشري هو في حد ذاته عقاب. الرغبة، حتى إذا كانت مجرد إنجذاب فهي فعل بذيء. كانت المدارس الكاثوليكية تجعل الأطفال يشعرون بالعار لامتلاكهم مثل هذه المشاعر الطبيعية، وكرسي الاعتراف هو المكان الذي تعترف فيه للكاهن بهذه المشاعر مثلما تعترف بارتكاب الآثام. في فيلم المريض العقلي  كان القتل هو عقاب هذه الأفكار والأفعال في الحياة.

وبم أن فيلم المريض العقلي  هو منتج متميز على عدة مستويات (الفكرة والسيناريو والإخراج والموسيقى والتصوير .. إلخ) فيمكن تفسيرة بأساليب عديدة. في هذا المقال يمكننا أن نخلص إلى وجود فكرة الخطأ الكاثوليكي في مضمون الفيلم، ويمكننا أن نرى ذلك بشكل فريد وواضح من خلال الأم وعلاقة سام بماريون، وأربوجاست، ومناقشة ماريون مع نورمان التي تنتهي بتطهيرها من آثامها في الحمام. كان الفيلم ذا نبرة أكثر سوداوية وإزعاجاً من الرواية التي تحمل نفس الأسم للكاتب روبرت بلوش. كان بلوش يهودياً وبالتالي لم ينشأ نشأة كاثوليكية مثل هيتشكوك، لذا فقد قام بتطعيم روايته بحس الدعابة حتى يعوض عن تركيز الموضوع ودموية القصة. وهذا لا يعني أن الفيلم قد خلا من اللحظات وسطور الحوار المسلية، ومع ذلك هناك جدل ماذا كانت هذه الدعابة قد قامت بالتخفيف من سوداوية مشاهد الفيلم. من هذه المشاهد على سبيل المثال: بعد مشهد الحمام وتتابع لقطات التنظيف التي قام بها سام، يتغير المشهد إلى متجر سام، حيث تقوم امرأة بقراءة الملصق المطبوع على علبة مبيد الحشرات. تصرح بأنها تعتقد أن موت الحشرات أو الرجال يجب أن يكونبدون ألم، وفي نهاية المشهد تقول "حسناً، إذا كان مؤلماً أتمنى أن يكون سريعاً". مشهد آخر عندما يدرك نورمان أن زيارة سام وليلا له سوف تتكرر، يحمل أمه ويقوم بنقلها إلى القبو. تتابع الكاميرا نورمان من أعلى وهو يحمل جسد أمه نازلاً إلى القبو. يتحدث نورمان إلى أمه في همس ويخبرها أنه سوف يأخذها إلى القبو، فترد عليه "قبو الفواكه؟ هل تعتقد أنني فاكهة؟".

يعتبر سايكو فيلماً عن العقاب على الأفعال الخاطئة وإرساء العدالة الكاثوليكية. ندرك بعد مشاهدة الفيلم أن أم نورمان كانت ميتة قبل أن تقع أحداث الفيلم، وأن حضورها الملحوظ في أحداث الفيلم كان من خلال عقل نورمان المضطرب. إذن ما الذي تمثله والدة نورمان له في عقله؟ كانت شخصية قمعية، تعترض على قضاء نورمان الليل في النزل. بعد وصول ماريون، يتحدث نورمان إلى أمه ويخبرها أنه يحضر شطيرة من أجل ماريون. يكون رد فعل الأم عنيفاً، وتسمع ماريون محادثتهما من خلال نافذة غرفتها:

الأم: لن أتركك تحضر الفتيات الصغيرات إلى هنا لتناول العشاء. ( وبنبرة احتقار). على ضوء الشموع كما أظن بأزياء شهوانية رخيصة من شباب بعقول شهوانية رخيصة.

نورمان: أمي أرجوك .. (لاحقاً) أمي، إنها غريبة فقط

الأم: (وهي تحاكي  حديثه بقسوة): أمي، إنها غريبة فقط. كما لو أن الرجال لا يشتهوا الأغراب، كما لو .. أوه، أرفض أن أتكلم عن أشياء مقرفة لأنها تثير اشمئزازي! أتفهم يا ولد، اذهب واخبرها أنها لن ترضي شهيتها بطعامي أو ابني ..

نورمان: أسكت! أسكت

من خلال ملاحظة شخصيات سايكو كتمثيلات رمزية، والأخذ في الاعتبار الرسالة الضمنية للفيلم، يمكننا أن نقول أن شخصية الأم في خيال نورمان تمثل في الواقع راهبة مدرسة كاثوليكية. يتحدث نورمان مع ماريون في المشهد التالي عن وحدته وحياته الرتيبة. ثم تبدأ ماريون في الاعتراف لنورمان بحياتها ومشاكلها. يمكننا أن نقول هنا أن نورمان يمثل كاهن يستمع إلى اعترافات ماريون. كانت هي غير المتزوجة في غرفة بفندق مع رجل مطلق. كانت على علاقة جنسية قبل الزواج.

سام: سمعت عن أزواج يقومون عن عمد أحياناً بقضاء الليل في فنادق رخيصة . يقولون أن ..

ماريون: (تقاطعه) حينما تكون متزوجاً يمكنك أن تفعل أشياء كثيرة عن عمد.

سام: تتكلمين مثل فتاة متزوجة

تم توقيع العقاب الديني الكاثوليكي على ماريون ليس لأنها سرقت 40 ألف دولار، لكن لأنها ارتكبت خطيئة ممارسة الجنس قبل الزواج. بعد أن ينتهي نورمان من تنظيف غرفة ماريون، يقوم بعمل تفتيش أخير للغرفة ويعثر على الصحيفة المطوية التي تحتوي على المال المسروق. يأخذه ويلقيه في صندوق السيارة بجانب جثة ماريون. سابقاً، بعد ارتكاب جريمة القتل في الحمام، تتحرك الكاميرا في لقطة طويلة من داخل الحمام إلى غرفة النوم، وتستقر على الصحيفة المطوية. هذا التتابع هو مثال آخر على السينما الخالصة، حيث تقوم الكاميرا وحدها بحكاية القصة دون موسيقى أو حوار. السينما الخالصة في فيلم الشمال من الشمال الشرقي، حينما كان ثرونيل (جرانت) ينتظر الحافلة في حقل الذرة، ثم تقوم طائرة رش المحاصيل بمطاردته. استخدمت عناصر السينما الخالصة في سايكو من حركة وتكوين بصري وإيقاع، حينما وصلت ماريون إلى فندق باتس، وقامت الكاميرا بتصوير غرفتها بهدوء حينما كانت تغير ملابسها، حينها أيضاً رأينا الصحيفة المطوية التي تخفي الأوراق المالية. نشأ صراع نفسي داخل نورمان حينما كان ينظر إلى ماريون وهي تغير ملابسها من خلال ثقب في غرفة مكتبه. اللوحة التي كانت تخفي الثقب تسمى (سوزان والكبار) وهي لوحة تصور رجلين يغتصبان امرأة. فبعد حوراه مع أمه أصبح يشعر بألم الرغبة تجاه ماريون مصحوباً بالشعور بالذنب والعار. السؤال هنا: أي جانب من عقل نورمان هو من قتل ماريون؟ هل فزعه الشخصي بعد أن أدرك مشاعره الشهوانية تجاهها، أم جانب الأم/ الراهبة، التي أرادت أن تعاقب ماريون على سلوكها غير المقبول أخلاقياً؟ ما يقدمه الفيلم حقاً للمشاهدين هو مقدمة في الفلسفة الكاثوليكية عن الحياة الفاضلة. يجبر المشاهدين في البداية على التماهي مع ماريون، ثم بعد موتها يتم توجيه تعاطفنا إلى نورمان حينما نكتشف في النهاية أنه الأم.

5- نوبة جنون 1972: الطعام – الجنس – الموت

بحلول عام 1972 كان إنتاج هيتشكوك الفني قد وصل إلى نهايته. فتضائلت دائرة معارفه، وتدهورت صحته بسبب السمنة المفرطة واستهلاكه غير المشروط للكحول. ولم يحظى بفيلم ناجح منذ مارني 1964. فالأحداث التي وقعت بعد هذا الفيلم وخلال هذه الحقبة تسببت في مشاكل كبيرة له: تقدمه للزواج من تيبي هيدرن ورفضها له ثم احتقارها له بمرور الوقت، نجح في إزاحته من هوليوود وصناعة الترفيه بأكملها. فضلاً عن الخسارة المادية التي تعرض لها فيلميه التاليين، ستارة ممزقة وتوباز، وتصريحه عن عدم سعادته بالممثلين الذين اختارهم الاستديو لهذه الأفلام.

عاد هيتشكوك مرة أخرى إلى انجلترا لتصوير (نوبة جنون)، الفيلم الذي يعتبر اليوم أحد أفضل أفلامه. ففي أحد مشاهده على سبيل المثال، يقوم بنقل العنف والقسوة إلى عقل المشاهدين حينما يأخذ القاتل ضحيته التالية، بابس (أنا ماسي) إلى شقته. عندما يقول بوب (باري فوستر) لـ بابس عند ارتقائهما السلم "هل أخبرتك من قبل أنك نوعي المفضل من النساء؟"، تتحرك الكاميرا ببطؤ وفي صمت نازلة السلالم التي صعدوها تواً متقهقرة إلى الخلف خارجة من الباب إلى الشارع. وعلى المشاهدين أن يتخيلوا الآن المشهد الوحشي الذي يحدث في هذه اللحظة داخل شقة بوب أثناء حركة الكاميرا المبتعدة. حينما تستقر الكاميرا أخيراً عبر الشارع نسمع صرخة رهيبة.  

قالت أحد الدراسات الحديثة  حديثة لهذا الفيلم الكئيب عن أنه لا يتضمن أي رسالة إصلاحية. فجميع الناس يرتابون في بعضهم، كما أن هناك تلازم قوي بين الطعام والجنس، مثلما يوجد تلازم بين الطعام والعنف في الفيلم. يعمل القاتل بوب بائعاً في سوق كوفنت جاردن، ويقوم بتقديم العنب لريتشارد بلاني بعد فصله من العمل. وكانت زوجة المحقق الرئيسي في قضية "قاتل رابطة العنق" (ألكس ماكجوان)، تقوم بإطعامه طوال الوقت بطعام غير صالح للأكل، حيث كانت طاهية رديئة. وبعد أنا قام بوب بقتل بريندا (باربارا لايت هنت) في وكالة التعارف، أكل تفاحة التقطها من مكتبها. بلاني وبريندا قبل مقتلها أيضاً كانا يتجادلا في مطعم أثناء تناولهما الطعام، حيث كسر بلاني كأس النبيذ وجرح أصابعه. وبابس تم إخفاءه والتخلص منه عن طريق شاحنة بطاطس.

كانت حالات القتل في الفيلم دون مبرر أو معنى، مثل أفلام هيتشكوك السابقة. ولا يمكن للمشاهد أن يحدد مشاعره أو يتعاطف مع أي من الشخصيات، لذلك لا نشعر بالفقدان حينما يقتل أحدهم بوحشية. يمتلك البطل، ريتشارد بلاني مزاج عنيف، يهدد موظف سابق عنده بالقتل، ويقوم طوال الفيلم بدور شخصية حادة وانتقامية. نتعاطف معه في النهاية فقط بسبب القاتل الحقيقي، فبوب روسك بالنسبة له شخصية غير مقبولة وتستحق اللوم.

اغتصاب وقتل بريندا التي تدير وكالة تعارف من أكثر المشاهد إرباكاً في الفيلم. يحضر بوب إليها، في حين تكون سكرتيرتها خارج الوكالة، ليعرف لماذا لم يستطيعوا أن يجدوا له فتاة مناسبة. تخبره بريندا وهي تنظر إليه باذدراء مستتر، أنه لا توجد من تريد أن تتعرف عليه وفقاً لملفه الشخصي، ولا الوكالة أيضاً تريد أن تنظم له لقاء تعارف وفقاً لتفضيلاته. يغضب بوب ويجذب بريندا ويعتدي عليها. في مشهد طويل تقوم الكاميرا بالتركيز على فستانها المرفوع ثم ساقيها ثم صدرها، ثم تقترب الكاميرا من عينيها ونحن نسمع تضرعاتها في حين يقوم بوب بخنقها برابطة عنقه. بعد بحث تاريخ المخرج مع الممثلات، يعد هذا المشهد تحقيقاً لأمنيات هيتشكوك نفسه، والتي لم يستطع تحقيقها في الواقع، وانتزاعاً لانتقام ضد هؤلاء النساء من خلال (نوبة غضب). يبدو مقتل بريندا أنه يستغرق الحياة كلها تقريباً. عشاق الفيلم سوف يقدرون حركة الكاميرا الرائعة في مشهد الاغتصاب، ومهارة استخدام عيون الضحية لوصف الحدث الدائر.

في الواقع الفيلم بأكمله بارع الصنع، ولا توجد سوى أمنية واحدة هو أن يكون هناك شيء يعوضنا عن لهجة العنف ضد النساء. وبالطبع يوجد به مثالاً واحداً وهو المحقق أوكسفورد، الذي يعود إلى البيت إلى زوجته الرقيقة، التي تستخدمه كحقل تجارب لطعامها، وحتى لا يجرح مشاعرها يقوم بإلقاء الطعام غير الصالح للأكل في أصيص الزرع دون أن ترى ذلك، ويبدو أنه يدعم تجاربها. وحتى يرضي شهيته يأكل البيض واللحم المقدد في في مركز الشرطة دون علمها. بالإضافة إلى أنه الشخص الوحيد الذي آمن ببراءة بلاني، وتمكن بمساعدته بمراقبة شقة بوب الأمر الذي ساعد في تبرأة بلاني. المحقق أوكسوفرد هو الشخص الوحيد من بين شخصيات الفيلم الذي لا يملك أي هدف أخلاقي الأمر الذي أدى إلى إعادة ترسيخ الشعور بالأمان في فيلم لا يملك في الحقيقة رسالة أخلاقية.

العنف في أفلام هيتشكوك (الجزء الأول)

 

تقييم الموضوع

تعليقات Facebook


تعليقات البوابة الوثائقية