"البائع" .. رؤية تحليلية لمجتمع مهترئ
عمد المخرج الإيراني أصغر فرههدي منذ أفلامه
الأولى إلى تحليل وتشريح المجتمع الإيراني وإظهار مشاكله وعيوبه مهما كانت القشرة
التي يختبئ تحتها، واعتبر الأسرة الإيرانية والعلاقة الزوجية بشكل خاص هي نقطة انطلاقه
للكشف عن أزمات هذا المجتمع خاصة الطبقة الوسطى المثقفة المتعلمة.
في فيلمه (البائع) الحائز على جائزة الأوسكار
لأفضل فيلم أجنبي عام 2016 وعلى جائزة أفضل ممثل وسيناريو من مهرجان كان لنفس
العام يزيح المخرج الستار عن أسرة تبدو على السطح مثقفة ومتفتحة وسعيدة بحياتها
ليكشف لنا العوارات المتوارية خلف هذا الستار. فعماد رجل مثقف شاب يعمل مدرساً للأدب
في أحد المدارس الثانوية كما يعمل هو وزوجته ممثلان مسرحيان، ويبدو هادئاً ومتزناً،
يتصدع المبني الذي يسكنان فيه ويهرعان مع الجيران للهرب منه، ويصاب المبنى بشروخ
تجعل من المستحيل الإقامة فيه فيبحثان عن مكان آخر ويساعدهما صديق في استئجار شقة
كانت تسكنها قبلهما امرأة سيئة السمعة.
يمزج المخرج الرمز مع الواقع للدلالة على
أزمة شخصية البطل والخلل الذي ينتاب علاقته مع زوجته من خلال تركيز الكاميرا على
اللحظة التي تصيب فيها الشروخ جدران البيت وزجاج نوافذه نتيجة لآلة الحفر التي
نراها من خلفه والتي تقوم بعملها بجوار أساسات هذا البيت في إشارة واضحة للأزمة
التي ستعصف بأساس العلاقة الزوجية بين البطلين أو على الأقل سوف تترك بها شروخ لا
يمكن ترميمها، وبالتالي تصبح علاقتهما الزوجية مهددة بالانهيار مثل هذا البيت.
حينما تتعرض الزوجة لحادث اعتداء من أحد
زبائن المرأة التي كانت تسكن الشقة سابقاً، تتفجر أزمة البطل الذي يسعى إلى معرفة
هوية المعتدي والبحث عنه ثم حينما يكتشف أنه رجل مسن ومريض ورغم ضعفة ومزلته لا
يجد الغفران أو التسامح طريقاً إلى قلب البطل رغم توسلات زوجته لنسيان الأمر
وتهديدها بإنهاء العلاقة.
من خلال هذه الأزمة يستعرض لنا المخرج هشاشة
الطبقة الوسطى خاصة المتورطة في ممارسة الفن والثقافة في المجتمع الإيراني، والتي
تبدو على السطح واعية ومتسقة مع ذاتها لكنها متصدعة في داخلها ومتخبطة بين ثقافتها
وبين أمراض مجتمعها التي تأصلت بها وتركت آثارها غائرة، والقيود السياسية والدينية
التي تفرضها عليها السلطة، وهو يعبر عن هذه الأزمة بصرياً بلقطة كاملة أو بعيدة
لهما في شرفة منزلهما الجديد المتقزم القديم المختبئ بين زحام الأبراج العالية البراقة
بعد وقوع الحادث للزوجة، كما يعيدهما مرة أخرى لبيتهما المتصدع مع الرجل المعتدي
للتأكيد حصار البطل داخل الشخصية الآيلة للسقوط التي صنعها لنفسه، وينهي الموقف
بلقطة قريبة على وجه البطل من خارج الزجاج المصاب بالشروخ.
السيناريو الذي كتبه المخرج بنفسه هو أهم
عناصر القوة بهذا الفيلم، فهو نسيج متكامل متماسك كل تفصيلة به تدفعنا إلى المسار
الذي رسمه لنا المخرج لنتتبع حكايته ونمتزج بمشاعر شخصياته، وقد دعمه الرؤية
البصرية التي حفلت برمزية غير مقحمة ولكن تم نسجها مع الحكاية بطريقة ناعمة لتفصح
عن مدولولاتها دون ابتذال.