"الكيت كات" .. ليس كل مبصر يرى
في أحد مشاهد الفيلم حينما انطلق الشيخ حسني
بدراجة سليمان الصايغ النارية بأقصى سرعته بينما كان الناس يهرعون أمامه هلعاً من
أن يدهسهم، لم يكن ذلك مجرد مشهد يصور رجل أعمى يطاوع نزوته، ولكنه كان يحاول أن
يثبت لهم أنه يرى أفضل منهم، وأنه ببصيرته يتحكم فيهم هم أصحاب البصر، وأنه قادر
على أن يدفعهم أمامه ليفسحوا له هو الطريق.
اقتبس المخرج داوود عبد السيد رائعته الكيت
كات من رواية إبراهيم أصلان (مالك الحزين)، التي تدور أحداثها فيما بعد ثورة 1952
وترصد حكايات مجموعة من الشخصيات تقطن حي الكيت كات في يوم واحد، وهو يوم وفاة (عم
مجاهد) أحد سكان الحي، واستعدادهم لأحياء جنازته، كما يجمعهم معاً ذلك المقهى الذي
قد تقرر بيعه وهو الأمر الذي يهدد بتشتيت شملهم. استل المخرج شخصية الشيخ حسني من
بين شخصيات الرواية وجعلها هي الشخصية الرئيسية في الفيلم والذي يرصد من وجهة نظره
حكايات الناس في حي الكيت كات في أوائل التسعينات.
الشيخ حسني، كما يراه المخرج، رجل كفيف يعيش
مع أمه وابنه يوسف بعد أن رحلت عنه زوجته منذ عدة سنوات، وبسبب ضيق الحال وضيقه
بالحياة يلجأ إلى جلسات الحشيش مع أصدقاءه من سكان الحي، يغني لهم ويستمتعون
بنكاته وحكاياته وسخريته منهم. ويتباهى بأنه يعرفهم دون أن يتكلموا أو يعلنوا عن
وجودهم من رائحتهم أو من وقع خطواتهم.
لا تتوقف حدود قدرات الشيخ حسني عند مجرد
التعرف على سكان الحي من خلال حواسه، ولكنه استغل بذكاء عدم حرصهم معه بسبب عاهته
في معرفة ما لا يعرفوه هم المبصرون عن أنفسهم، ويستغل أحياناً هذه المعرفة في
الوقت المناسب من أجل مصلحته الشخصية أو الانتقام ممن ظنوا أنه رجل أعمى ضعيف
يمكنهم أن يستولوا على بيته بثمن بخس نظير الحشيش الذي يتغلب به على مرارة الأيام.
وهو في استغلاله لمعرفته أو تنفيذه لانتقامه لا يضمر شراً، ولكنه يلهو بهم مثلما
يلهو طفل صغير بدماه المفضلة ويستمتع بالصدفة التي يستغلها أفضل استغلال.
يحلل المخرج نموذج مصغر من المجتمع المصري من
خلال وجهة نظر الشيخ حسني، فيوسف (شريف منير) الابن يمثل شريحة عريضة من الشباب
الذي تقهره البطالة بعد انهاء تعليمه ويحلم بالسفر إلى أوروبا حتى يعمل ويستمتع
بحياته، بينما يبحث أصدقاءه عن عقود عمل في السعودية والكويت من أجل جمع المال. وفاطمة
(عايدة رياض) الفتاة الجميلة التي تزوجت من ثري عربي أخذ متعته منها ثم تركها
عائداً إلى بلاده، وهو الأمر الذي كان منتشراً في مصر في ذلك الوقت بين الأسر
الفقيرة وخاصة في الريف. والمعلم صبحي تاجر الدجاج الذي يشتري بيت الشيخ حسني
ليهده ويبني مكانه عمارة، ولا يتورع عن استخدام البلطجة في مواجهته ومواجهة المعلم
عطية صاحب المقهى حتى يتركوا له البيت مقابل مبلغ زهيد. البلطجة التي أصبحت نهجاً
متبعاً بين أصحاب الأموال في مواجهة قليلي الحيلة من أجل تنفيذ رغباتهم. والهرم
بائع الحشيش الذي يستغل شقة أحد جيرانه ليوزع منها على مريديه ويستغل ثغرات
القانون للفرار من قبضته.
استطاع أن يقدم لنا المخرج صورة تنبض بالحياة
للحارة المصرية في ذلك الوقت سواء في تقديمه لشخصياتها الأصيلة في تكوينها وسلوكها
أو في تصويره لمظاهر الحياة بها وبأزقتها الضيقة، والتلاصق الحميمي بين بيوتها،
والتي يكشف الجيران من نوافذها حياة بعضهم البعض. كما ساهمت الإضاءة في إعطاء أبعاد
أعمق للصورة خاصة في مشاهد جلسات الحشيش في دكان الشيخ حسني الخالي وتحلق الصحبة
حول موقد الجاز الذي أضاء وجوههم وأعطى ظلالاً ضخمة لأجسادهم على الحائط وكأن
الحشيش يجعلهم يشعرون بأنهم عمالقة أقوياء رغم ضئالتهم أمام مشكلاتهم في الحياة
الواقعية.
تعد شخصية الشيخ حسني هي أفضل دور قدمه
الراحل محمود عبد العزيز في مشواره الفني، وأنت تشاهده لا تشك للحظة واحدة أنك
أمام رجل كفيف حقاً في طريقته في التعبير بملامح وجهه وحركات جسده وتركيزه على
أذنيه أثناء التنصت لتبين من يسير خلفه أو موجود معه في نفس المكان، وتحسسه للطريق
بقدميه واستخدام طقطة أصابعه لمعرفة إذا كان هناك حائل في طريقه. ولا يمكنك سوى أن
تسعد لمرحه الطفولي حينما يلقي مزحة أو يصنع مقلباً، ولا تمنع نفسك من معايشة حزنه
بسبب كلمات عم مجاهد الغاضبة أو التأثر ببكاءه الصامت بعد ضربه لإبنه.
ليس كل مبصر يرى، هذه هي الفكرة التي يحاول
المخرج إثباتها من خلال شخصية الشيخ حسني في فيلم الكيت كات، والذي نجح في أن
يجعلنا نتوحد معه ونتماهى مع أوجاعه وسعادته ونحتفي بحبه للحياة وطريقة تعامله
معها.