"يوم الدين" .. بطاقة تعريف لا بأس بها لمخرج جيد
يوم الدين فيلماً يطرح حياة أحد
الفئات المهمشة في المجتمع والتي ربما هناك الكثيرين الذين لا يعلمون عن وجودهم أو
وجود مستعمرتهم شيئاً، كما أنه فيلما عن البحث عن الذات وفهمها وتقبل نقائصها التي
لا يد له في وجودها أو تغييرها. هي رحلة للبحث عن كينونتك بين عالم مليء بالشرور
والنفور من كل ما هو مغاير أو خارج عن المألوف. ولكن في مواجهة كل هذا الرفض والاستعلاء والنبذ
هل نظل بكل هذا الثبات دون أن نتأثر أو نهتز ولو للحظة عابرة؟! دون أن نصاب بفورة غضب واحدة أو نوبة انهيار أمام كل هذا البغض؟
يتبع فيلم المخرج (أبو بكر شوقي) الروائي الأول الذي استلهمه من مشروع تخرجه الوثائقي القصير (المستعمرة) والذي كان يوثق لمستعمرة الجذام وساكنيها، رحلة (بيشوي) أو كما ينطقه ساكني المستعمرة (بشاي)، الرجل الأربعيني المتعافي من المرض لكنه ترك آثاره البغيضة على وجهه وأطرافه، للوصول إلى أهله الذين تركوه أمام باب المستعمرة وهو في سن العاشرة ولم يعودوا له مرة أخرى من خلال حبكة غربية تقليدية استهلكتها الأفلام الهوليودية مرات ومرات. هذا الخاطر الذي التمع في ذهنه حينما حضرت والدة زوجته بعد وفاتها للصلاة على قبرها، وظل يلح عليه لمعرفة أين جذوره وماذا كانوا يفعلون كل هذه السنوات.
تسامح غير منطقي:
منذ اللقطات الأولى للفيلم والمخرج يؤسس
لمكانة هذه الفئة في المجتمع التي تعد من ذوي الإعاقة نظراً للتشوهات التي تصيب
الجسد وأطرافه، وهو أحط مكان يمكن أن يوجد فيه البشر، بين مساحات شاسعة من
القمامة، حيث يعمل بشاي جامعاً للخردة من بين هذه القمامة التي يمكنه بيعها والعيش
من مقابها الزهيد، ويسترسل في تأكيده على هذه المكانة حينما يرغب بشاي في ركوب
القطار مرة أخرى بعد أن طرد منه ويسأله الطفل (اوباما)، رفيق رحلته، كيف سيركبه ثانية فيرد بشاي (هركب مع
البهايم). وأيضاً المشاهد التي تجمع بشاي
بالمتسولين الذين يلتقي بهم أثناء رحلته، والذي يشوب كل منهم إعاقة ما أيضاً وقد
ارتضوا بهذه المكانة والمكان على أمل (ان يوم الدين كلنا نبقى سواسية) كما ورد على
لسان أحدهم.
بالطبع يعيطنا المخرج أسبابا لهذه المكانة
التي ارتضوها لأنفسهم من خلال المعاملة السيئة والزجر والاشمئزاز الذي يتعرض له
بشاي طوال رحلته من جميع البشر الذين جمعته الظروف بهم، حتى الفلاحين الذين يغسلون
بهائمهم في الترعة، ومع ذلك ينهرونه
للاستحمام بها خوفاً من أن يلوث مائهم . ولكن برغم ذلك هناك سلام غير منطقي يتمتع
به بشاي وهؤلاء المتسولين في مواجهة هذا الاحتقار ولا يشوبهم أي نوع من الثورة أو
حتى الغضب في مواجهة نبذ الناس لهم، ولا يوجد سوى مشهد القطار حينما يصرخ بشاي في
الناس (هو أنا مش بني آدم ولا أيه) حينما قام الكمسري والركاب بضربه، والذي بدا
استعطافاً أكثر منه رد فعل يحمل أي إشارات للغضب. وتستمر حالة التسامح هذه حتى
لحظة اللقاء بالأهل التي تمر مرور الكرام دون كلمة عتاب أو لوم واحدة من بشاي لأبيه
الذي أنطلق في سرد مجاني لأسباب تركه له وعدم عودته أو السؤال عنه مرة أخرى.
الأحلام كمرآة للمشاعر:
تلعب الأحلام في الفيلم المعادل البصري
لمشاعر بشاي تجاه الرحلة والمواقف المؤسفة التي تعرض لها خلالها، أو مرآة عاكسة
لذكرياته البعيدة، وربما تعبر أيضاً عن تخوفه من تكرار هذه الذكريات، فهي تبدأ في
الظهور مع بداية الرحلة حينما تتمثل له صورة الأب وهو يتركه صغيراً ليلاً على باب
المستعمرة ملثم الوجه، وربما هذه هي الذكرى الوحيدة التي تركت آثارها في خياله عن
أبيه. وحينما يتعرض للضرب في القطار يتمثل له المشهد مرة أخرى في أحلامه تعبيراً
عن فزعه من الموقف وخوفه من الناس. ولكن أكثرها رقة وعذوبة حينما يتمثل له
المتسولون الثلاثة ، الذين رحبوا بإقامته معهم وساعدوه على الوصول إلى بلده، في
أحلامه وهم جالسون يتناولون الطعام في بيت أبيه ويرى أنعكاسة وجهه في المرآة شاب
معافى تماماً من التشوهات، تعبيراً عن شعوره بالألفة معهم كأنهم أهله، وربما أيضاً
لشعوره بأنه ليس شخصاً غريباً أو مغايراً مثلما عامله بقية البشر الأصحاء الذين اصطدم
بهم في الطريق.
فيلم جيد ولكن ..
على
الرغم من تقديم المخرج صورة أصيلة عن الريف المصري من خلال استعراضه لطرقاته
المتربة والموحلة أثناء رحلة بشاي على
عربته الكارو، وفقر بيوته وبؤس ساكنيه، إلا أن اختياره للموسيقى ذات الإيقاع
الغربي رغم المشاهد الموغلة في المصرية أحدث بعض التشويش في التماهي مع الشخصيات.
وعلى الرغم أيضاَ من أن الرحلة تتوغل في قرى
الصعيد وصولاً إلى قنا في جنوبها إلا أن جميع الناس الذين مر بهم بشاي وتعامل معهم
يتكلمون اللهجة القاهرية بامتياز وصولاً إلى الأخ والأب اللذان يسكنان قرية في
قنا، ولا أعتقد أنه أمر مقصود من المخرج لكسر الإيهام لأن الحكاية مبنية على
التماهي مع مشاعر البطل ومرافقته في رحلته، ولا أظن أيضاً أن هذه التفصيلة يمكنها
أن تمر مرور الكرام على مخرج مهتم بتقديم فيلم جيد، فهل كان نوع من الاستسهال، أم
لأن الفيلم سيعرض في المقام الأول في مهرجانات دولية فلن ينتبه الأجانب لاختلاف
اللهجة؟
كما لا
يعقل أيضاَ أن يكون متسولاً بالكاد يستطيع القراءة أن ينطق بمصطلح (البيرورقراطية
المصرية) أو أن يكون مدركاُ لمعناها بالأساس، فضلاً عن وجود جمل حوارية وعبارات
عديدة تعطيك انطباعاً أن الحوار قد كتب بالإنجليزية ثم ترجم إلى العربية.
ومع
ذلك يمكننا اعتبار (يوم الدين) فيلم جيد الصنع، رغم هناته التي كان يمكن تداركها بسهولة ليصبح
فيلما ً متقناً، فهو بطاقة تعريف لا بأس بها يستهل بها أبو بكر شوقي سيرته الذاتية
كصانع أفلام يجيد الحكي والتعبير عن المشاعر الإنسانية بالصورة، ويملك القدرة على إدارة الممثلين والسيطرة على
أدائهم، خاصة إذا كانوا وجوهاً جديدة للمرة الأولى يحتكون بفن التمثيل وعالم
السينما.