السبت 27 أبريل 2024 م - 18 شوال 1445 هـ

"أخضر يابس" .. الرمز والتفاصيل كراوي للحكاية

الثلاثاء 07/نوفمبر/2017 - 12:12 م
The Pulpit Rock
أروى تاج الدين
 

يستلهم فيلم "أخضر يابس" قصته من حياة الناس العادية المحيطة بك في كل مكان. يكتسب قوته من استخدامه لحكاية بسيطة عن حياة أختين، وتفاعله مع رتابة الحياة اليومية، وإعطاء التفاصيل دور الراوي في الحكاية التي تعيشها كثير من الفتيات في مصر والتي ربما تكون من قريباتك أو صديقاتك أو جيرانك أو أحد معارفك، وكل منهم هي قصة تسير على قدمين، تغذيها رتابة التكرار وضغوط الالتزام العائلي وفقر الحال والانتظار الطويل لأمل جديد يكسر حدة الملل والضجر ويضع حداً للصبر الطويل.

يقدم المخرج (محمد حماد) في فيلمه الطويل الأول شخصية إيمان فتاة ثلاثينية ، عبوس ومتجهمة دائماً. تعيش مع أختها الصغيرة في بيت قديم بائس في منطقة فقيرة بجوار شريط مترو الأنفاق. تعمل في محل حلويات وتتولى مهمة الرعاية والإنفاق على أختها بعد وفاة والديها وأخيها. ينقطع الطمث عنها لسبب لا تعلمه، وتذهب إلى الطبيب في محاولة لاسترجاعه مرة أخرى. في هذه الأثناء يتقدم شاب لخطبة أختها وتذهب إلى أعمامها واحداً واحداً حتى يحضر أحد الخطبة كما هو العرف والتقاليد. للوهلة الأولى نعتقد أن إيمان تحمل هم أختها كرهاً بسبب هذا العبوس الدائم، لكن مع استمرار المشاهدة نجدها تقوم بمهمتها عن حب حقيقي يظهر في الاهتمام بطعامها ومصاريف الجامعة، والزيارة الثقيلة للعم الثري الذي لا يستقبلها هو وزوجته جيداً ويتنصلون من ممارسة دور شكلي، وإعداد البيت من أجل استقبال أهل العريس، والتفاني في حل مشكلة الستائر التي تأبى على الإصلاح.

الحياة في التفاصيل:

إهتم المخرج بالتركيز على تفاصيل الحياة اليومية التي تكشف شيئاً فشيئاً عن شخصية إيمان ، استيقاظها المبكر لإعداد الفطار لأختها قبل ذاهبها إلى الجامعة، صلاتها الخاشعة، إهتمامها بسلحفاتها وصباراتها، الطريق من وإلى العمل وابتسامتها الهزيلة في تعاملها مع الزبائن وكأنها أحد مستلزمات العمل. انتظارها على محطة الترام وتشابه ملامحها مع المنتظرين والمارين. واسترسل فيها قليلاً إلى الحد الذي سمح بتسرب بعض الملل إلينا أيضاً في مشاهد محل الحلويات من تنظيف وإجراء الحسابات، والمهندس الذي لم يصلح ثلاجة العرض، والحوار مع صاحب العمل، وكلها مشاهد كان يمكن بترها دون الخوف من إحداث أي خلل أو نقص.

يبدو على السطح أن إيمان مستسلمة لحياتها الرتيبة، لكن تفاصيل صغيرة تحتفظ بها تكشف عن أملها في أن تكون عروس مثل جميع الفتيات، فتخفي دبلة خطوبة بين مقتنياتها الصغيرة تضعها على إصبعها وتتأملها في يدها. صورة في حافظة نقودها لطفل صغير وأخرى لابن عمها الذي كانت تجمعها به علاقة عاطفية منذ زمن، وربما كان صاحب الدبلة. تجربتها لفستان خطوبة أختها أمام المرآة. كل هذه الأشياء تشي بأملها الكبير الذي تحمله في قلبها وتنتظره بصبر نباتات الصبار التي ترعاها.

دلالات الرمز:

الرمز حاضراً وبقوة في الفيلم، قام المخرج بتوظيفه بطريقة سلسة تجعله متناغماً مع الحكاية ومنسجماً معها دون الإغراق في شكلية لا معنى لها. منذ اللقطة الأولى يظهر نبات الصبار الذي تزرعه إيمان بكميات كبيرة في شرفة بيتها، والصبار نبات معروف بتحمله للعطش الشديد، ويرمز به للصبر وقوة التحمل، وهنا في الفيلم يرمز لتحمل إيمان لعطشها للحياة وانتظارها الصبور لتعيش حياتها مثل بنات سنها. أيضاً السلحفاة التي تربيها البطلة في بيتها، وترمز لبطئ مرور الوقت وثقله الممل، وانقلابها على ظهرها بعد معرفة إيمان بانقطاع الطمث عنها للأبد ودخولها في سن اليأس في وقت مبكر دليل على شعورالبطلة بالعجز واليأس. قطار مترو الأنفاق المار من أمام البيت ليل نهار وكأنها قطارات الحياة التي تمر من أمام إيمان مسرعة في حين أنها لازالت في مكانها. أيضاً وقوفها فوق كبري المشاه تتأمل شريط مترو الأنفاق الخالي من القطارات بعد معرفتها بدخولها في سن اليأس، وكأن قطارات الحياة قد رحلت عنها جميعاً وانقطع الأمل. وقوف الفتاتان أمام زجاج الشرفة يتأملان الصبار بعد مرض العم وتأجيل الخطبة، بعد أن كانت تتأمله إيمان بمفردها، يعطي دلالة على أن الفتاتان تحملان نفس مصير العنوسة بسبب القدر والظروف المادية والاجتماعية التي تحاصرهم.

جماليات الصورة:

اختار المخرج أن تدور أحداث الفيلم في فصل الشتاء المعروف بأنه يصيب الكثيرين بالاكتئاب والإحباط بسبب البرد وكثرة الغيوم وغياب ضوء الشمس الساطع. هذا الاختيار كان داعماً قوياً لاستخدام الإضاءة المعتمة التي تجعلنا نتماهى مع الحالة النفسية للبطلة ويمتد إلينا الشعور بالحزن والبؤس. برودة الشتاء أيضاً رمز لحياة البطلة الباردة الخالية من العاطفة.

استخدام اللقطات القريبة والقريبة جداً في التركيز على البطلة والأشياء التي تثيرها أوتمسك بها والتي تصنعها بيديها أعطى انطباعاً قوية بقيمة هذه الأشياء وأهميتها لدى البطلة، مثل لقطة الفوطة الصحية المملوءة بدماء الدورة الشهرية من وجهة نظر إيمان والتي تركتها أختها خلفها في الحمام، والذي آثار في نفسها الغضب وربما الغيرة بسبب انقطاعها عنها. أيضاً محاولاتها لدق المسمار في الحائط، والتركيز على حركة يديها الدئوبة في إصلاح الستائر، والدبلة، والصور في محفظتها.

 رصد فترات الصمت من خلال اللقطات الطويلة كشف عن طبيعة العلاقات المتوترة بين الشخصيات كما في مشهد زيارة بيت العم الثري، والمشهد الذي يجمع إيمان بعمها الكبير وابنه. كما عبرت أيضاً عن شعور الأختين بالكآبة واليأس من خلال رصد حالة الصمت والظلمة التي سادت في البيت بعد فض إيمان لبكاراتها وإلغاء أو تأجيل خطبة الأخت الصغرى.

محمد حماد مخرج يدرك القيمة الشعورية للحكاية الحقيقية التي تتماس مع كثير من الناس، والتي يمكنها أن تنفذ إلى قلب المشاهد ووجدانه بسهولة، معطياً أهمية كبيرة للتفاصيل الصغيرة والقيمة الرمزية التي تعبر عنها، مفسحاً المجال لمساحات الصمت لتبوح بأكثر مما يفصح عنه الحوار.       

تقييم الموضوع

تعليقات Facebook


تعليقات البوابة الوثائقية