"البائع المتجول" .. تصدع المجتمع الإيراني وشروخه
"ما الذي يفعلونه بهذه المدينة؟!.. من الأفضل أن نهدمها ونعيد بنائها من جديد!" .. يقول عماد بطل الفيلم الذي جسَّد دوره الممثل الإيراني شهاب حسيني.
يستمر المخرج الإيراني أصغر فرهادي في تحقيق انتصاراته للسينما الإيرانية، بحصول فيلمه "البائع المتجول" على جائزة الأوسكار أحسن فيلم أجنبي لعام 2017م لتكون ثاني جائزة أوسكار يحصل عليها في تاريخه بعد فيلمه المهم "انفصال" الذي حاز نفس الجائزة، وسط حفاوة نقدية وعالمية كبيرة جعلت للفيلم الإيراني مكانه ومكانته على ساحة السينما العالمية. ما يجعلنا نسأل أنفسنا لماذا لم تحقق السينما المصرية نفس النجاح رغم تاريخها الكبير؟!.
يكمل فرهادي ما بدأه أسلافه من أعلام تيار "سينما الواقعية
الإيرانية الجديدة" التي بدأت إرهاصاتها قبل الثورة الإسلامية، ثم استمرت على
أيدي كبار المخرجين أمثال محسن مخملباف،وماجد مجيدي،وجعفر باناهي،وعباس
كياروستامي،..وغيرهم. هذا التيار الذي احتفى به فرهادي في فيلمه بأن قام عماد
البطل المعلم والممثل المسرحي بعرض فيلم لطلابه يعد من كلاسيكيات هذه الموجة، هو
فيلم "البقرة" إخراج داريوش ميهروجي 1969م،تلك السينما التي شقّت لنفسها
مجرى في خضم صعوبات كبيرة، اقتصادية وثقافية، سينما تواجه مناخ قمعي ولافظ
للإبداع، حكم ديني يضع قيوده على كل أنواع الفنون وفي القلب منها السينما. فعمد
هؤلاء الطليعة من المخرجين للسينما منخفضة التكاليف، و"سينما المؤلف"،ورفعوا
الواقعية شعارًا لهم ليكشفوا مساوئ مجتمعهم بنقد لاذع بدون ضجيج أو مباشرة فجة،
انغمست السينما الإيرانية الواقعية في الواقع الإيراني المحلي، لمست فيه الجانب
الإنسانية المشتركة فخرجت به إلى العالمية.
"أستاذ،كيف يتحول الإنسان لبقرة؟" يسأل التلاميذ .. يجيب عماد :"ببطئ".
الفيلم يبدأ أحداثه ببناية تتصدع، وتنهار، تملأها
الشروخ، وجميع مَنْ يسكنها في خطر، وعليهم أن ينجو بأنفسهم فورًا ويفروا منها. هذا
المجتمع المهدد بالانهيار، يلف شخوصه بحالة من القلق والاضطراب،وعدم الاستقرار.
البناء السردي للفيلم استوحى خيوطه من رائعة آرثر ميلر المسرحية "وفاة بائع
متجول"، ونقول استوحى النص ولم يقتبسه حرفيًا،ليقول فرهادي بأن نص أدبي
"أمريكي" ،أمريكا التي يعاديها النظام في بلاده قادر على أن يلهم مبدع
إيراني،وأن يطبقه على واقعه. ليرسل برقية واضحة أن الفن لا وطن له،وليس خاضعًا
للأهواء السياسية والاختلافات الأيديولوجية. وتبدأ أولى لقطات الفيلم بعامل إضاءة
في مسرح يضبط إضاءة المسرحية التي نكتشف هذا التماهي بينها وبين حيوات الشخوص
الرئيسية الممثلين والعكس بالعكس، هذه اللعبة السردية التي يتوازى فيها الوقوف على
خشبة المسرح مع الحياة، ليقول بأن الفن يستمد مادته من الواقع وليس بغريب عنها.
مجتمع مسرحية ميلر،متصدع أيضًا، مليء بالكذب والغش
والخداع بين أفراده. شخصيات تكذب على نفسها وعلى المحيطين بها. البناية التي اقتبس
فرهادي شكلها من المسرحية، شفافة بحيث ترى كل الوحدات بعضها بعضًا، وعلى الرغم من
هذه الشفافية إلا أنها شفافية زائفة، وإن كان يرى الجميع بعضه بعضًا، إلا أن
الجميع يجهلون كل شيء عن حقيقة بعضهم بعضًا، وتلك هي المسألة. بعد التصدع أصبح كل
الزجاج مشروخ، والعلاقات أيضًا مشروخة. ينتقد فرهادي النظام القضائي في بلاده،
استمر معه من فيلمه "انفصال"، فالبرغم من وقوع الاعتداء على
"رنا" زوجة البطل وزميلته في المسرح، إلا أنها تخشى اللجوء للشرطة
والنظام العَدلي ، كما أن الجيران والمجتمع بدا في حالة عدم ثقة في هذه المنظومة
القضائية وامتدحوا سلبيتها بعدم الشكوى للشرطة التي مهما لجأت لها لن تنصفك بل من
الممكن أن يحملوها الخطأ، فتصدع قيمة العدالة في المجتمع تنذر بأن تعود به لشريعة
الغاب.ومن ثم يدفع ذلك عماد للبحث بنفسه عن الجاني، ثم محاولة القصاص منه على
طريقته كمثقف وفنان ومعلم ورجل مثالي وليس رجلًا همجيًا يثأر لشرفه بارتكاب جريمة
قتل مثلًا، لكنه بدلًا من ذلك يحاول في لحظة كشف أن يفضح الرجل الجاني أمام أسرته
ويعريه، كما أنها كانت لحظة تعرية للمجتمع برمته، وبالرغم من انتقال البطلين من
البناية المتصدعة على وشك الانهيار، يعود عماد إليها لينهي فيها مواجهته مع
المعتدي على زوجته. هنا تظهر لغة فرهادي البصرية في اللقطات المقربة وتكوينات
الكادارات التي تحصر الأبطال في مساحات ضيقة ومؤطرة بكوريدورات تجعلهم محاصرين
بواقع ضيق وخانق، كما أن زاوية الكاميرا التي تلتقط العجوز الجاني من أعلى وتضعه
في عمق الكادر لتظهره صغيرًا بالنسبة لأعين الناظر إليه، لتظهر ضآلته وخزيه. كما
أن فرهادي مارس لعبته المعهودة بوضع الجدران كحواجز بين الشخصيات وبينهما الزجاج
المشروخ لبيان تأثر العلاقات بينهما. وتنطفيء الإضاءة على بلاتوه العجوز بنفس
طريقة المسرح ليرسخ لفكرة التماهي بين الحياتين.
يسخر فرهادي من القيود التي يضعها نظام الحكم الإسلامي
على المبدع من داخل فيلمه، فيرد بذلك على كل الادعاءات ضده بأن كثير من المشاهد
خصوصًا بين الزوج والزوجة ليست واقعية. الممثلات لابد أن تظهرن دائمًا بالحجاب،
كما أن التلامس بين الأبطال ممنوع حتى لو أنها زوجته في سياق الدراما. هذا النقد
ظهر في بروفة على المسرحية، تخرج فيها شخصية عاهرة لتقول بأنها لا ترتدي ملابسها،
في حين أننا نراها ترتدي معطفًا شتويًا ومحجبة، فيضحك الممثل أمامها على جملتها ساخرًا.
شريط الصوت للفيلم استمد مؤثراته من الموسيقى المصاحبة
للممثلين على المسرح، كما أن الصوت الحقيقي أيضًا لعب دورًا في تكريس فكرة
الواقعية، واستخدم في كثير من المواضع الصمت كمؤثر صوتي.
يموت البائع المتجول العجوز بعد مواجهته بجرمه ،ويعودا
كل من عماد ورنا لحياة المسرح في آخر لقطة من الفيلم ولكنهما شخصين آخرين يبدو على
وجهيهما ثقل الحدث، فالشرخ الآن بات بداخليهما وبدا أنه لن يلتئم.