الخميس 21 نوفمبر 2024 م - 19 جمادى الأولى 1446 هـ

محمود مرسي .. أستاذ الشخصيات المركبة

الإثنين 12/يونيو/2017 - 12:48 م
The Pulpit Rock
أروى تاج الدين
 

تتجلى موهبة محمود مرسي في إنه ممثل قادر على أن يؤدي أدوار مركبة لشخصيات تحمل ظلال عدة وطبقات مختلفة العمق، فقد ساعدته دراسة الفلسفة على الغوص في أعماق النفس البشرية والإمساك بتلابيب كل شخصية ودراسة تاريخيها، وفهم سلوكها ودوافعها، وبالتالي استطاع أن يقدم أدواره السينمائية بأسلوب السهل الممتنع، الذي يخلو من الافتعال أو المبالغة، والتي تتوغل في وعي المشاهد بحيث لا يمكنك أن تتخيل ممثل آخر يؤدي هذه الشخصية سوى محمود مرسي.

محمود مرسي من أبناء الأسكندرية، ولد في 7 يونيو 1923، درس الفلسفة بجامعة الإسكندرية، وعشقه للسينما والمسرح جعله يرحل إلى فرنسا من أجل دراسة الإخراج السينمائي لخمس سنوات، انتقل بعدها للعمل بهيئة الإذاعة البريطانية. حينما وقع العدوان الثلاثي على مصر قدم مرسي استقالته من الإذاعة البريطانية إحتجاجاً وعاد إلى مصر ليعمل بالإذاعة والتلفزيون المصري.

البدايات

يمتلك محمود مرسي عيون حادة ووجه صارم الملامح وجسد قوي البنيان، وهي كلها مقومات يمكنها أن تناسب ممثل يؤدي أدوار الشر، ورغم اختيار المخرجين له لمثل هذه الأدوار حقاً، لكنه استطاع تقديمها بطريقة مختلفة عن اكلشيه الشرير الذي كان سائداً في السينما المصرية في ذلك الحين، فكانت شخصيات لها مبررات لسلوكها وأبعاد مختلفة.  كانت بداية محمود مرسي في السينما بدور ثانوي في فيلم أنا الهارب عام 1962 أمام الفنان فريد شوقي وإخراج نيازي مصطفى، لكن يعد عام 1963 هو الانطلاقة الحقيقة لمحمود مرسي حيث قدم شخصيتين قويتين في أفلام تعد من أهم أفلام السينما المصرية، الأول هو شخصية فؤاد أستاذ الجامعة المثقف ذو الهيبة،في فيلم الباب المفتوح للمخرج هنري بركات، الذي يعبر عن الشيزوفرينيا التي يعاني منها المجتمع فهو ظاهريا رجل علم وثقافة وشخصية محافظة يقدس النظام والأخلاق، يعجب بليلى الطالبة عنده بالكلية ويخطبها فقط لأنها مطيعة ومهذبة، ومع ذلك لا يتورع في أن يفترس جسد ابنة خالتها بعينيه في حفل الخطوبة، وينصح أخو ليلى بأن يترك الفتاة التي يحبها لأنه يعرفها منذ زمن وخرج معها، أو أن يأخذ ما يريده منها بدون زواج.

 أما شخصية شاكر في فيلم الليلة الأخيرة  فقد أعطته الفرصه ليستعرض إمكانياته كفنان قدير وعملاق واع ومثقف ومدرك لأبعاد الشخصية التي يؤديها وما يعتمل داخلها من أفكار وانفعالات، وكيفية ظهور هذه الانفعالات دون تقليد أو افتعال. فللحظة ما، مهما تكررت مرات مشاهدتك للفيلم، لا تملك إلا أن تقع في فخ الشك والريبة وتكون على شفا الاقتناع بصدق دفوع شاكر وادعاءه بخلل في عقل زوجته التي تستيقظ يوم فرح ابنتها معتقدة أن هذا الزوج والبيت والإبنة وحتى اسمها يعودان إلى أختها التي لقت مصرعها على إثر غارة دربت بيتهم أثناء العدوان الثلاثي.  في هذا الفيلم الذي نال عنه جائزة التمثيل الأولى عام 1964 أستطاع تقديم شخصية الزوج المخادع الذي استبدل زوجته المتوفية بأختها الفاقدة للذاكرة من أجل ميراثها، بمقدرة جعلته ينتقل بالشخصية من مرحلة نفسية إلى أخرى، من الثقة بالنفس ومحاولة إقناع الزوجة بخللها ثم القلق ثم تزعزع الثقة بالنفس وجنون الخوف من ضياع كل ما بناه خلال سنوات حياته ما أدى به إلى ارتكاب تصرفات أوقعت به في فخ افتضاح أمره.

الزوج المخدوع بين الخائنة وزوجتي والكلب

لم يقم محمود مرسي بتكرار تجسيد ذات الشخصيات، وهذا ما يفسر قلة الأعمال التي قدمها على مدار تاريخه الفني، فقد كان يختار الأفلام التي يعمل بها، والأدوار التي كان يؤديها بعناية فائقة، بحيث تقدم في كل مرة جديد للمشاهد أو تحمل رسالة ما. ورغم أنه قام بأداء شخصية الزوج المخدوع في فيلمين هو الخائنة إنتاج 1965 وإخراج كمال الشيخ، والثاني هو زوجتي والكلب أول أعمال المخرج سعيد مرزوق سنة 1971، والمصنف من أفضل مائة فيلم في السينما المصرية خلال القرن الماضي، إلا إنه كان مدركا للاختلافات الجوهرية بين كلا الشخصيتين حتى وإن تشابهت في الظاهر. في فيلم الخائنة يقدم محمود مرسي شخصية المحامي أحمد سلام الذي يشغل العمل حيز كبير من حياته فيهمل زوجته الشابة الجميلة، ثم يقع تحت يده مصادفة دليل خيانتها فيتمزق بين إحساسه بالألم والمهانة، ورغبته في معرفة الرجل الذي خانته زوجته معه. أما الريس مرسي في زوجتي والكلب فهي شخصية أكثر تعقيداً وتحمل أبعاداً متعددة، فالريس مرسي عامل في فنار تزوج حديثاً من فتاة جميلة ويضطر لتركها شهوراً من أجل العمل وهو يبدو عليه قلق واضطراب غير معروف الأسباب تجاه زوجته، ثم حينما يعود إلى عمله يحكي لزميله الشاب الذي يعاني من الكبت الجنسي عن مغامراته قبل الزواج، وكيف كان يقوم بخداع أصدقاءه وخيانتهم مع زوجاتهم، وحينما يرسل هذا الشاب برسالة إلى زوجته تهاجمه الهواجس والظنون التي تعذبه وتزيد من اضطرابه وهلعه ويتخيل زوجته وصديقه وهم يقومون بخيانته مثلما كان يفعل بأصدقاءه.  

عتريس .. الشخصية التي تحولت إلى أسطورة

شخصية عتريس في فيلم شيء من الخوف إخراج حسين كمال هي من أهم الشخصيات المركبة التي جسدها محمود مرسي، وتعتبر أهم محطة في مشواره السينمائي، ففضلاً على أن الفيلم مصنف من أفضل مائة فيلم في السينما المصرية، إلا أن شخصية عتريس أيضاً أصبحت شخصية أسطورية يضرب بها المثل في الظلم والاستبداد. قدم محمود مرسي في هذا الفيلم شخصيتي الجد المستبد الطاغي، والحفيد الرقيق مرهف الحس العاشق لفؤادة رفيقة الطفولة والشباب، بإتقان المحترف الخبير ببواطن كل شخصية، وقد ظهر ذلك بوضوح في مشهد مقتل الجد وإلحاحه على الحفيد قبل أن يفارق الحياة بأن يأخذ بثأره من الرعاع الذين تجرأوا عليه. وانطلاقاً من هذا المشهد الذي يعد منعطفاً هاماً في شخصية الحفيد، يتحول عتريس إلى طاغية متخذاً نفس مسار جده، ومع ذلك يظل متمسكاً بجانبه المرهف دون وعي متمثلاً في حبه لفؤاده ورغبته في الزواج بها رغم رفضها العنيد بسبب إيذائه وقهره لأهل القرية.  

اهتمام محمود مرسي بتقديم أعمال سينمائية ذات قيمة وشخصيات جديدة ومختلفة ومؤثرة جعلت ظهوره في السينما قليلاً في فترة السبعينات والثمانينات، مقارنة بغزارة الإنتاج في هذه الفترة، وذلك لرفضه لسيناريوهات عديدة بسبب سطحيتها من وجهة نظره، واستخفاف صناع السينما في ذلك الوقت بقيمة السينما وأثرها على الجمهور، الأمر الذي جعله يتجه إلى التلفزيون ويقدم أعمالاً درامية لا تقل قيمتها الفنية عن أعماله السينمائية، تركت أثراً كبيراً في نفوس مشاهديها، وتعد من كلاسيكيات الدراما المصرية، مثل رحلة أبو العلا البشري ومسلسل العائلة وعصفور النار وثلاثية نجيب محفوظ وغيرها، وجميعها تحمل بصمته الخاصة في التمثيل التي لا يستطيع أحد أن ينسخها. 

تقييم الموضوع

تعليقات Facebook


تعليقات البوابة الوثائقية