الخميس 21 نوفمبر 2024 م - 19 جمادى الأولى 1446 هـ

"رجل التخطيط" ..فيلم كوري بتوليفة مدهشة

الخميس 18/مايو/2017 - 12:40 م
The Pulpit Rock
محمود عبد الرحيم
 

أتيح لي حضور مهرجان الأفلام الكورية قبل أيام، وبالفعل كانت تجربة مفيدة ومهمة، لأن السينما كما أقول دائما الأسهل في تقريب الشعوب من بعضها البعض، وكسر الحاجز النفسي، وخلق جسور حضارية.

ورغم أننا دولة رائدة في صناعة السينما، إلا أن التعرف على التجربة الكورية مهم للغاية، لإدراك أهمية وضع أهداف والوصول إليها بجدية وتخطيط ومثابرة، وأنه بالتوازي مع النمو الاقتصادي، ثمة نمو في صناعة السينما الكورية، وتخطيط مستمر لخروجها من المحلية إلى العالمية، وتوسيع سوقها، مع توفير دعم وحماية لهذا الفن الذي له بعد صناعي وتجاري، مع الانفتاح على العالم وإرسال بعثات تعليمية للخارج، وليس رفع الدولة يدها عن كل شئ، وترك الأمور تحكمها الصدفة أو العشوائية.

وبالطبع، ليست  هذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها سينما كورية، لكنها بالنسبة لي هذه المرة الأمتع، لأنها حوت فيلما جيدا للغاية يستحق حقا المشاهدة، لتنوع محتواه بين الرومانسي والموسيقي والتراجيدي والكوميدي والسيكولوجي، تلك التوليفة الغريبة والمعالجة السينمائية المدهشة معا، الذي وفرت للفيلم فرص نجاح كبيرة، وأيضا حررته من الملل ومنحته الجاذبية الشديدة والإمتاع، فضلا عن الأداء المتقن والمقنع لأبطاله الذين يتحكمون في ضبط انفعالاتهم والتحول من حالة سيكولوجية لحالة أخرى نقيضة بسلاسة وتقمص شديد، وبالطبع جودة الصورة، والأهم من ذلك ما يطرحه هذا الفيلم من رسائل ذات قيمة وذات حس إنساني، سواء ما يتعلق بضرورة تفهم الآخر وعدم التسرع في إصدار الأحكام عليه، أو أهمية إظهار التعاطف تجاه الآخرين، أو إمكانية تجاوز الأزمات واكتشاف الذات من جديد والتخلص من رواسب الماضي والتجارب المؤلمة، أو إمكانية الحب من جديد والتحقق والانسجام حتى مع أشخاص لا يشبهوننا، ومختلفون عنا في الطباع والسلوك.

والفيلم الذي أعنيه هنا فيلم plan man "رجل الخطة" أو "الرجل المنظم" أو رجل التخطيط، الذي انطلق صانعه من حكاية رجل يبدو كأحمق ومنعزل عن الآخرين، فقط مهووس بالنظام وبالنظافة بصورة مستفزة، لدرجة ترتيب كل صغيرة وكبيرة في مكانها الصحيح، ووضع جدول زمني منضبط لكل شئ، وحمل سائل مطهر في حقيبته يستعمله باستمرار، وإن اقترب منه أي شخص ولمسه يبادر إلى الذهاب إلى محل التنظيف الجاف فورا.

وقد اتخذ صانع العمل من الحب أداة لتطوير حبكته الدرامية، حيث يقع هذا الرجل الذي يعمل أمينا لمكتبة في حب فتاة، لكنه لا يجرؤ على مصارحتها ويكتفي بالتعبير عن مشاعره في كراسته الخاصة التي يفقدها في محل لبيع اللعب، فتقع في يد عاملة بالمحل لديها موهبة الغناء فتتخذ من حكايته أغنية تغنيها في أحد النوادي الليلية، وتشفق عليه وتحاول من جانبها أن تقربه من حبيبته بأن تسعى لمساعدته على التغيير في سلوكه وتصرفاته، وأن يتخلص من عاداته المستفزة المتمحورة حول النظام والنظافة المبالغ فيهما.

ويبدأن معا خوض مسابقة فنية بعد أن علمت بأنه يجيد عزف البيانو، وأثناء المسابقة المصورة تليفزيونيا يكتشف منتج البرنامج أن هذا العازف هو الطفل الأذكى في كوريا في الماضي الذي اشترك معه في مسابقة في الماضي والذي كان مؤهلا ليكون عالما عبقريا ويسافر للولايات المتحدة.

ويقوم بعمل تقرير تليفزيوني عنه، ما يتسبب في هروبه وانعزاله، خاصة أن حبيبته كذلك تتخلى عنه وترفض حبه، وحتى شريكته في الفرقة الغنائية يكتشف أنها كانت تستغله لإغاظة الموسيقي الشهير الذي هجرها، وفي محاولة التحقق الغائب عنها.

لكن يقرر مواجهة ذاته، والخروج من عزلته، ويظهر فجأة في حفل التعافي الخاص بالمرضي النفسيين بعد خوضه لفترة للعلاج، وهنا تظهر لحظة الكشف وفك شفرة غموض هذه الشخصية، من خلال استحضار أمه ومنتج البرنامج القديم، والدخول في حالة هستيرية، مع اللجوء للفلاش باك لنكتشف أن هذا الطفل الأذكى تعمد الإجابة الخطأ في مسابقة الذكاء الرقمي حتى لا يذهب إلى الولايات المتحدة، ويظل مع أمه التي كانت تريد تحقيق أحلامها فيه، وان هذه الخسارة كانت سببا في لوم الحضور لأمه ومحاولة هروبها من ملاحقة وسائل الإعلام، ما يتسبب في انزلاقها وسقوطها من عل ووفاتها، ما ولد شعورا دفينا لدى الطفل بعقدة الذنب، حاول التكفير عنها بأن أصبح مهووسا بالنظام والنظافة، وتسببت في عزلته.

وبعد هذه المواجهة والاعتراف، تبدأ رحلة التحولات، فيبدأ في التخلص من فوبيا لمس القطط ويتخلص من الساعات التي تحيطه وأجهزة التنبيه المختلفة،  ويجد في شريكته في الغناء المختلفة معه في العادات والطباع الأفضل لإكماله ومساعدته على التغيير، وتحقيق انجاز ما. وبالفعل ينجحان معا كفرقة غنائية، ويتخلص من العقد النفسية التي عقدت حياته وحرمته من الاستمتاع بها.

ومن المشاهد التي أتوقف عندها لما لها من دلالات، جلسة علاج نفسي جماعي، حيث نجد شخصيات متعددة الخلفية الاجتماعية والمهنية كل واحد يتنمر للآخر، ثم سرعان ما يشتبكون فتخرج الأمور عن سيطرة الطبية النفسية التي تدخل هي نفسها في حالة هستيريا من البكاء والصراخ وتشتكي من الضغوط والوحدة التي تمر بهما.

ورغم المعالجة الكوميدية لهذا المشهد، إلا أن المخرج أراد أن يصل رسالة من وراءه أن الجميع بصرف النظر عن خلفياتهم وظروفهم الاجتماعية، بما فيهم الأطباء النفسيون لديهم مشكلة ما تؤرقهم لكن الحياة تستمر، والعبرة بألا تعطلنا مشاكلنا وتدخلنا في عزلة.

تقييم الموضوع

تعليقات Facebook


تعليقات البوابة الوثائقية