"البجعة السوداء" .. رحلة السقوط إلى قمة الكمال
رغم اعتماد المخرج دارين أرنوفسكي
على إسطورة الباليه الشهيرة "بحيرة البجع" كخلفية محورية لأحداث فيلمه
"البجعة السوداء"، تلك الأسطورة التي تروي حكاية الفتاة الجميلة التي تحولت
عبر تعويذة سحرية إلى بجعة بيضاء لا يمكن إبطالها إلا من خلال الحب، لكن البجعة السوداء
تختطف قلب حبيبها الأمير، وعندما تفقد البجعة البيضاء أملها في التحرر، تنتحر لتجد
في الموت خلاصها التام، لاجئاً لعالم الباليه المرهف الحساسية إلا انه انطلق من
خلال الإسطورة وعالم فن الباليه إلى عالم السيكودراما أو تشريح النفس الإنسانية
الساعية نحو الكمال والحرية فلاتجدهما الا في الموت، من خلال راقصة الباليه
"نينا" التي أتمت عامها الثامن والعشرون دون خوض حقيقي للحياة الواقعية،
حيث تعيش أسيرة ضغوط والدتها المتسلطة، راقصة الباليه السابقة التي تسعى لأن تحقق
إبنتها الشهرة والنجومية التي فشلت هي في تحقيقها، فتجعل إبنتها أسيرة لحلمها
الضائع وبالفعل تعيش نينا تلك الحياة الفاترة إلا من الطموح الجامح والتدريب المستمر
كي تصل إلى ما جبلت على الحلم به طوال حياتها وهو أن تصبح بطلة عروض الباليه
لفرقتها الشهيرة، وبالفعل يتحقق الحلم المنتظر باختيار مخرج الفرقة لها لدور
البطولة في مسرحية "بحيرة البجع"، ولكنها تشعر بالتهديد المستمر لبقائها
في تلك المكانة بسبب وجود منافسة لها على ذات الدور، بالإضافة إلى انتقاد المخرج
الدائم لها لأنها تؤدي بلا مشاعر، فيدعوها إلى أن تنسلخ من تلك الشخصية السلبية
التي تأسر روحها، لتجد نفسها أسيرة ضغط
نفسي مضاعف بعد اختيارها لدور البطولة، لتكتشف في نفسها جوانب اخرى كانت خافية
عليها طوال حياتها وهي أنها تتحرك بصحبة شخصية أخرى تشعر بوجودها أحيانا فتصاب
بالذعر، حتى أنها تنهي حياة ناتالي في نهاية الأحداث دون إدراك حقيقي لماهية تلك
الشخصية الأخرى الملازمة لها.
يبدأ المشاهد في تجميع خيوط تلك الأحداث المبتورة ليكتشف أن بطلته مصابة
بإنفصام حاد في الشخصية، وعندما تقتل أحداهما الأخرى تشعر ناتالي أخيرا بالحرية
والكمال التي كانت تسعى دوما لبلوغهما في المشهد الختامي للاستعراض وسط تصفيق
الجمهور الحاد تسقط البجعة البيضاء او نينا في الفيلم للتحررأخيرا.
بالضافة إلى السلاسة التي يسير بها الفيلم رغم سوداويته
الشديدة، ولغة أرونوفسكي السينمائية التي تجمع بين الجرأة والغموض، استطاعت موسيقى
كلينت مانسل التصويرية التعبير عنها بمنتهى الشاعرية بشكل كبير لافت للنظر، من
خلال تدفق موسيقي يعبر وبقوة عن مشاعر بطلة الفيلم نينا/ناتالي بورتمان، والتي استطاعت
باقتدار مدهش قادها نحو جائزة أوسكار أفضل ممثلة عن دورها في الفيلم في عام 2010، تجسيد
المعاناة التي تقاسيها، وهوسها بالكمال، واغترابها الشديد، وعزلتها، وعطشها العاطفي،
وجانبها المظلم الأخطر، الذي قادها بخطوات واسعة في وقت قصير، إلى الكمال من أقسى الطرق،
خلاص البجعة البيضاء للأسف، وليست السوداء التي حمل الفيلم اسمها تأكيداً على سيطرتها،
رغم الانتصار الظاهري للبجعة الضعيفة التي اختارت الهروب على البقاء والصراع.
فالفيلم توليفة
خاصة جدا من الدراما النفسية شديدة التعقيد القائمة على التدرج التصاعدي لأحداث تقع
في الواقع المرئي على الشاشة، وأحداث أخرى تقع داخل بطلة الفيلم تؤدي إلى فنائها،
فلأول مرة تتحرر البطلة من ضغوط حياتها الرتيبة وسيطرة أمها ومحاولات منافسيها
لكسرها لأخذ مكانها واستنزاف المخرج لمشاعرها المكبوتة كل ذلك يتحطم على صخرة
الخلاص والوصول للكمال المنشود.