"انفصال" .. عندما تكون الواقعية سبيل الهروب إلى العالمية
"من
رحم المعاناة يولد الإبداع" هذه المقولة هي الأصدق تعبيراً عن الطبيعة الخاصة
لتوصيف حال السينما الإيرانية على مدار تاريخها حيث لعبت التقلبات السياسية والأيديولوجية
دور البطولة في تشكيل الساحة الفنية. فقد شهدت إيران المراحل الأولى للاهتمام بالسينما
في بدايات القرن الـعشرين، عندما أمر الشاه مظفر الدين بشراء الأدوات والمعدات اللازمة
من الخارج لإنشاء أول سينما في إيران، واستمرت في التطور خلال عصر الشاه رضا بهلوي
وابنه من بعده، وتطورت السينما الإيرانية سريعاً، ليُحاول صُناعها اللحاق بالركب الغربي
في أيام الشاه، لكن الثورة الإسلامية التي قامت عام 1979، والتي قلبت الأمور في إيران
رأساً على عقب، وهروب الشاه وتولي آية الله الخميني الحكم، جعلت صناعة السينما بأكملها
في مأزق.
اعتبر الخميني
السينما "رمزاً للانحطاط الغربي"، وهي وجهة النظر التي جعلت حرق دور السينما
فوق رؤوس أصحابها في تلك الفترة بإيران أمراً هيناً على أتباع الثورة الإسلامية ومؤيديها،
ومنعت ظهور المرأة ضمن أي سياق فيلمي لسنوات جعلت الإبداع يحاول البحث عن متنفس
ولو كان أعرجاً، وما زاد الأمور تعقيداً اعتماد السينما الايرانية على مدرسة الواقعية
الجديدة التي نادت به السينما الإيطالية، حيث تركز أفلام هذه المدرسة، بشكل خاص، على
التغيرات التي تطرأ في النفسية، وأوضاع الحياة اليومية. ولكن ما حدث أن كل تلك
المعوقات خلقت تيار قوي من الإبداع المتدفق بعيداً عن الثالوث المحرم
"السياسة، الدين، الجنس" ليغزل صناع السينما سيمفونية الفن الخالص بأبسط
الوسائل وأقل تكلفة إنتاجية متاحة، حاصدين جوائز التميز في غالبية المهرجانات
العالمية بخطوات قافذة ومفاجئة أيضاً للجميع.
من تلك الأسماء
التي تمكنت من فرض واقعها الأسطوري رغم كل تلك المعوقات كان المخرج أصغر فرهدي
الذي أخرج أول فيلم روائي عام 2003 بعنوان "الرقص مع الغبار"، وفي عام
2004 فصدر له فيلم "المدينة الجميلة "، وحصل على العديد من الجوائز سواء
من مهرجان الفجر السينمائي أو من مهرجان وارسو السينمائي الدولي لتتوالى أعماله
وجوائزه، ففي عام 2009 صدر له فيلم بعنوان "عن إيلى " حصل الفيلم على العديد
من الجوائز منها جائزة الدب الفضى لأحسن مخرج في مهرجان برلين الدولي في دورته 59،
وأحسن فيلم في مهرجان تريبيكا السينمائي، كما حصل فيلم "انفصال" 77 جائزة
من مهرجانات متعددة منها جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية لعام 2012، بجانب جائزة
الدب الذهبي لأحسن فيلم في مهرجان برلين السينمائي الدولي، ليكون أول فيلم إيرانى يحصل
على هاتين الجائزتين. وفي فبراير 2017 فاز أضغر فراهيدي بثاني
جائزة أوسكار لأفضل فيلم أجنبي عن فيلم "البائع"
يبدأ فيلم
"انفصال" بجلوس كل من نادر وسيمين أمام قاضي الأحوال الشخصية بغرض تمكين
الزوجة "سيمين" من السفر خارج أيران بابنتها الوحيدة بعد إصرار زوجها
على البقاء في إيران وعدم الرحيل، لكن ينتهي المشهد برفض القاضي تمكينها من ابنتها
فتقرر الانفصال عن زوجها وترك بيتها والانتقال لبيت أمها ليبدأ "نادر"
في مواجهة مصيره برعاية والده المسن المصاب بمرضض الزهايمر، ومتابعة ابنته، مما
يضطره لإستقدام خادمة توالي شؤون والده في غيابه أثناء عمله. وبالفعل تأتي الخادمة
وابنتها الصغيرة لتستلم مهام وظيفتها الجديدة ولكنها تفاجأ أن عليها الاحتكاك
المباشر بوالد نادر، وهو ما تراه مخالف للشريعة الإسلامية، فتلجأ لدار الإفتاء
للحصول على الرأي الشرعي، ويرفض المسئولين إعطائها فتوى شرعية تجيز عملها، ولكنها
تستمر في العمل لحاجتها للمال لمساندة زوجها العاطل دون إخباره عن طبيعة عملها،
حتى تضطر للخروج من منزل "نادر" تاركين الأب المسن وحيدا فيسقط، ليحضر
"نادر" ويفقد صوابه عندما يرى الخادمة قادمة ويدفعها خارج منزله فتذهب
الى قسم الشرطة وتقرر شكواه بدعوى إجهاضها نتيجة لتلك السقطة وتتوالى الأحداث من
خلال هذه الحادثة لتكشف من بعيد الملامح السياسية الضاغطة على جميع شخوص الفيلم
وكذلك المحددات الدينية التي تلعب دور قوي في زيادة الضغوط والأعباء النفسية على
جميع الابطال، لينتهي الفيلم ايضا في ساحة المحكمة بعد قرار "سيمين"
بالإصرار على الطلاق والهجرة بعيداً عن تلك الاراضي الخانقة لكل صور الحب.
يعكس الفيلم
التناقض الصارخ الذي تعيشه إيران بين الأيديولوجية الدينية القوية والمرتبطة ببيروقراطية
بطيئة ووضع اقتصادي صعب، وبين الشارع الإيراني الأكثر تحرراً وسعياً للتمرد. فالفيلم
ينتمي الى تلك النوعية الاجتماعية الإنسانية التي تعتني بالتفاصيل البسيطة لإيصال
رسالة عميقة عن طبيعة الصورة الكاملة للبيئة الإيرانية وهو اسلوب تتسم به غالبية
تلك الأفلام التي تنتمي إلى السينما الواقعية، فعلى سبيل المثال هناك أفلام المخرج
الراحل عاطف الطيب واكثرهم قربا لفيلم "انفصال" فيلم "إنذار
بالطاعة" للفنانة ليلى علوي ومحمود حميدة فمن خلال تفاصيل تلك العلاقة تتكون
لدى المشاهد صورة عامة للواقع المصري بكل تفاصيله، وكذلك فيلم "اريد
حلا" للمخرج سعيد مرزوق لعملاقة فاتن حمامة ورشدي أباظة فأيضاً تماس الفيلم
مع هذا الخلل الاجتماعي من خلال المدرسة الواقعية لرصد صورة أعم عن الواقع النفسي
للمواطن المصري والتغيرات التي يعشها في فترة السبعينات. فهذه النوعيات من الأفلام
التي تأتي اقرب للمرثيات الحزينة عن مجتمعاتنا الإنسانية، تحتاج لعين بصيرة ترى دواخله
وتتعلم من مشكلاته، حيث أراده المخرج أن يكون صرخة ينبه بها المجتمع الإيراني ومجتمعاتنا
الشرقية للتقاليد والعادات والإرث الأخلاقي والمحبة الصادقة الآخذة في الانهيار والتهاوي،
مقابل التمسك أحياناً ببعض تقاليد جوفاء بالية تطوقنا كأسوار من حديد.