"الأرقام الخفية" وتحدي عوائق التمييز العنصري والجنسي
الأرقام الخفية فيلم عن التحدي والإصرار على
النجاح، والشغف والنضال من أجل تحقيق الذات في ظل رفض مجتمعي وعوائق التفريق
العنصري ضد السود في المجتمع الأمريكي، الذي أصبح على أشده في منتصف خمسينات القرن
الماضي، فضلاً عن النظرة الدونية للنساء في ذلك الوقت واعتبارهن غير مؤهلات لتولي
الأعمال الحيوية والمناصب الهامة.
يروي الفيلم عن قصة حقيقية، حكاية ثلاث نساء
من الأفارقة الأمريكان، (تاراجي هينسون – كاترين، أوكتافيا سبنسر – دورثي، جانيل موناي
– ماري جاكسون)، يمتلكن مواهب في الرياضيات وعالم الأرقام، وقد ساعدتهم الظروف في
الحصول على أعلى تعليم يمكن أن يصل إليه الأفارقة في أمريكا في النصف الأول من
القرن العشرين. ولكن رغم مواهبهن الاستثائية يتم تعيينهم في وكالة ناسا كموظفات
يقمن بعمل ومراجعة الحسابات التي تعتمد عليها أبحاث الفضاء، أولاً لأنهن من السود
وثانياً لأنهن نساء، في فترة السباق المحموم بين الاتحاد السوفيتي والولايات
المتحدة من أجل الوصول والسيطرة على الفضاء الخارجي، والذي حسمت المبادرة فيه
للاتحاد السوفيتي. ويتم حشرهن مع زميلاتهن
من الأفارقة في مكتب خاص بموظفات الحسابات في مبنى منعزل عن بقية الوكالة.
منذ المشاهد التأسيسية في الفيلم حرص المخرج
ثيودور ميلفي، الذي قام بكتابة السيناريو مع أليسون شرودر، على إبراز فكرة
العنصرية من خلال المحادثة في المشهد الأول التي دارت بين والدي الطفلة كاترين التي
تمتلك موهبة عظيمة في الرياضيات وبين المسئولين عن مدرستها الابتدائية وهم يقدمون
لإبنتهم منحة تعليمية في أفضل مدرسة للسود تتعدى الصف الثامن في ولاية غرب فريجينا،
يليها مشهد تعطل سيارة (كاترين ودورثي وماري) على الطريق وهن ذاهبات إلى العمل في
وكالة ناسا، والذعر الذي أصابهن من رؤية سيارة الشرطة، ثم الطريقة الفظة التي
عاملهن بها رجل الشرطة قبل أن يعرف أنهن يعملن في ناسا، حيث كان الصراع المحتدم
بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على غزو الفضاء هو المسيطر على تفكير
الشعب الأمريكي في ذلك الوقت، وبالتالي اعتبر الشرطي أن مساعدتهن في الوصول إلى
عملهن هو عمل وطني في حد ذاته.
ورغم التأكيد على فكرة اضطهاد السود في
المجتمع الأمريكي طوال أحداث الفيلم، إلا أن بطلاته ليسوا شخصيات ثورية أو مناهضة
للظلم الواقع عليهن أو يحملن ضغينة تجاه البيض، ولا يقمن بأي فعل متهور للتعبير عن
غضبهن، ولكنهن متقبلات للأمر الواقع، يحاولن مسايرة الأوضاع والتحايل عليها والتعامل
ببعض الدهاء أحياناً دون الدخول في صدام مباشر مع من يعترض طريقهن من البيض.
فماري، أصغر الثلاثي سناً رغم انها تبدو مشاغبة فضلاً عن أنها متزوجة من رجل ثوري،
إلا أنها تحسن التصرف أمام الشرطي حتى لا تعرض نفسها للاعتقال، وأثناء مناقشتها مع
رئيسها في العمل حينما اكتشف براعتها في الهندسة وأخبرها أنه يجب أن تصبح مهندسة
أجابته "أنا امرأة زنجية لن أتعلق بوهم مستحيل". وعندما تذهب دورثي بأولادها إلى مكتبة عامة
مخصصة للبيض من أجل الحصول على كتاب لم تعثر عليه في مكتبة السود يتم طردها هي
وأولادها من المكتبة دون أن تبدي معارضة، ومع ذلك تأخذ الكتاب وتخفيه في حقيبتها،
وحينما يسألها أولادها عنه تخبرهم بأنها تدفع الضرائب وأنها يجب أن تأخذ ما دفعت
ثمنه مسبقاً. وتتقبل كاترين أيضاً المعاملة السيئة التي تتلقاها من زملائها في
القسم وتضطر إلى الركض ميلا تقريباً إلى حمامات الملونين حتى لا تستخدم دورات مياة
البيض.
بالإضافة إلى التركيز على العنصرية العرقية،
لم ينسى الفيلم الإشارة إلى النظرة المتدنية التي ينظر بها الرجال إلى النساء،
السود والبيض على حد سواء، في المجتمع الأمريكي في ذلك الوقت، واعتبارهن غير
مؤهلات للعمل في المهن التي تحتاج إلى ذكاء ومهارة عالية، فحينما تتعرف كاترين على
ضابط الجيش جيم جونسون في اجتماع الكنسية وأثناء حديثهما حول عملها يبدي اندهاشه
من أنهم يتركون النساء يتعاملون مع هذا النوع من الأعمال، ويحتد ليفاي جاكسون على
زوجته ماري حينما تخبره أنها تريد التقدم لدراسة الهندسة ويرد عليها بأن ناسا لن
تترك النساء يقمن بمثل هذه الأعمال.
على الجانب الآخر كانت هناك شخصيات من مجتمع البيض لا
تتعامل بعنصرية تجاه السود في الفيلم، هم فقط يقومون بواجبات عملهم لا أكثر، وعلى
رأسهم آل هاريسون (كيفين كوستنر)، الذي يرأس كاثرين في فريق عمل الفضاء، وهو رجل
لا يهتم سوى لأبحاثه، وسباق الزمن مع الاتحاد السوفيتي، ورغم نظرات الاستنكار
والاعتراض من جانب أعضاء فريقه، يقوم بإسناد بعض الأعمال الهامة لكاترين حينما
يدرك جدارتها في الهندسة التحليلة ويسمح لها بحضور اجتماع مجلس الشيوخ، وعندما يلاحظ
تغيبها أثناء ساعات العمل وتخبره بالرحلة التي عليها أن تقطعها إلى دورات مياة
الملونيين يقوم بتكسير اللافتة على دورة مياة الملونيين ويطلب من الجميع استخدام
نفس الدورات. أيضاً قاضي المحكمة التي تقدمت لها ماري بطلب الموافقة على حضور صف
الهندسة، والذي يقوم بواجبه فقط في تطبيق القانون، وتتمكن هي من إقناعه بأنها تريد
أن تخدم وطنها ولا حيلة لها في لونها، فيحكم لها بحضور الصف الليلي.
استطاع الفيلم الربط بين فكرة التمييز العنصري ومقاومتها
من جانب السود عن طريق اللقطات التي تتعرض للمظاهرات وأخبار أحداث العنف ضد
الأفروأمريكيين وتصريحات مارتن لوثر كينج، وبين محاولات الولايات المتحدة التغلب
على الاتحاد السوفيتي وإرسال طيارين إلى الفضاء، فكلا الحدثين كانا في ذروتهما في
الفترة بين منتصف الخمسينات ومنتصف الستينات، وكأنه يحاول التأكيد على أنه لن تنجح
أمريكا في الوصول إلى الفضاء إلا إذا تخلصت من هذه النقيصة. وبالتالي يقابل كل حق
يتم منحه للبطلات الثلاث في الفيلم خطوة ناجحة في برنامج غزو الفضاء. كما يؤكد أنه
ليس بالمقاومة والعمل السياسي فقط أستطاع الأفرومريكيين الحصول على حقوقهم لكن
بإصرارهم على النجاح وعلى أن لهم كيان ودور في هذا المجتمع.