الثلاثاء 23 أبريل 2024 م - 14 شوال 1445 هـ

شادي عبد السلام.. الفرعون المعاصر

الأربعاء 17/أغسطس/2016 - 06:36 م
The Pulpit Rock
ابتهال حسين
 

"اعطني اسمي في البيت الكبير وأعد إليّ الذاكرة يوم أن تُحصى السنين"، إنها إحدى المقولات المفضلة لفرعوننا العظيم "شادي عبد السلام"، أحد أهم وأعظم رائدي ومناضلي الفن والثقافة العربية على حد سواء. عاشق الفرعونية الذي ترك لنا ارثا حفره للتاريخ كنقش فرعوني على أعمدة الفن الأصيلة، فأفكاره المثقلة والممزوجة بالواقع المصري جعلته عبقرية فذة صعب تكرارها، أمتزج عبد السلام بعالم الفراعنة لدرجة قد تظن أنه بالفعل فرعونا قادم من عبق التاريخ مخترقا آلاف القرون ليزيح الأتربة والأهمال عن تلك الحضارة الغامضة التى حيرت معها العالم أجمع، فقد وصف في إحدى الصحف بأنه " أبرز سينمائي مصري عرف كيف يتجاوز النظرة السطحية التمجيدية في تعامله مع الحضارة الفرعونية".

نشأة الفرعون المصري

شادي عبد السلام .. هذا الفنان التشكيلي والمخرج والمؤلف ومهندس الديكور ، تلك الكتلة الفنية الكاملة والمتكاملة التي خرجت من رحم الحياة في 15 مارس 1930 ، من مواليد مدينة الإسكندرية، تخرج من كلية فيكتوريا التابعة لجامعة أكسفورد بإنجلترا عام 1949، كان لديه رغبة قوية لدراسة السينما إلا أن أهله وقفوا أمام رغبته ودائما ما كانوا يحتقرون السينما علاوة على ذلك لم يكن معهد السينما قد أنشئ حينذاك. التحق عبدالسلام بمعهد الفنون الجميلة بالقاهرة لدراسة العمارة –التي طالما كان يقدر هذا الفن ويعتبره أساس كل الفنون- متخذا من "ايزنشتاين" المخرج السوفيتي القدير قدوة له ، حيث بدأ مهندسا معماريا إلى أن أصبح واحدا من أكبر منظرى السينما في العالم. تخرج عبد السلام من المعهد وحصل على درجة الامتياز في العمارة، ولكنه لم تكن لديه الرغبة مطلقا للعمل كمهندس معماري رغم تفوقه فى دراسته، وبدأ يفكر مرة أخرى في السينما والعمل بها ، فكان مغرما بها .

بداية عبدالسلام فى محراب السينما

 دون تفكير وبشجاعة طرق شادي باب المخرج القدير صلاح أبو سيف، وبالفعل دخل مجال السينما عن طريق أبو سيف من خلال فيلم "الفتوة" عام 1957، وكان عمله يقتصر على تدوين الوقت الذي تستغرقه كل لقطة، نعم.. تلك كانت بداية شادي عبد السلام، لم ييأس أو يستصغر هذا العمل ، لأنه كان مؤمنا أيمانا قويا بأن الطريق دائما يبدأ بالخطوة الأولي حتى لو كانت صغيرة، فقد أصبحنا اليوم فى زمن يفتقد الكثير والكثير من التأني واالنضوج الفني.

بداية صغيرة لانفراجة قوية

عمل عبدالسلام مساعدا للمخرج الكبير صلاح أبو سيف فى العديد من أفلامه منها: الوسادة الخالية، الطريق المسدود، أنا حرة. وكانت الصدفة الثانية لظهور موهبة جديدة لشادي للعالم وذلك أثناء عمله مع المخرج حلمي حليم في فيلمه"حكاية حب"، حدث أن تغيب مهندس الديكور، فقام شادي بعمل الديكور، الذي أبهر الجميع ولفت النظر إلى هذا الفنان المبدع الصغير، تهافت عليه المنتجين لتصميم وتنفيذ ديكورات مجموعة من الافلام ، من أهمها: فيلم "وا إسلاماه" عام 1961، لتكن بداية انطلاقة من نوع جديد للفنان شادي عبدالسلام، خلقت له اسما هاما في هذا المجال، ولم يقتصر نجاحه فقط فى مصر بل عمل خارجا كمصمم للديكور والملابس في الفيلم الأمريكي "كليوباترا"، والفيلم البولندي "فرعون".
وفي عام 1966، عمل عبدالسلام مع المخرج الايطالي الكبير "روسيلليني" في فيلم "الحضارة"، الذي استفاد شادي كثيرا من خلال عمله معه فنيا وفكريا، فقد امتاز روسيلليني  بفكره البسيط مع العمق فى الوقت نفسه، كما يرجع الفضل له فى تحقيق رغبة شادي للانتقال الى مجال الاخراج السينمائي الذي لطالما أراده بشدة.

الإخراج ونقطة الإنطلاق

"أتصور بأن الأفلام التاريخية التي أقدمها ومصر عليها هى نوع من البحث التاريخي بلغة الكاميرا عن هموم وأشواق الحاضر.. أنا أرى الحياة في استمراريتها سواء بالنسبة لي أو لغيري، ولا يمكن أن أعزل اليوم عن الأمس، إذا أردت أن أرى جيدا ما يجري اليوم فما نحن فيه اليوم هو نتاج تاريخنا."

تلك كلمات المخرج شادي عبدالسلام، موضحا في سطور قصيرة تفسيرا منطقيا عن إصراره على التاريخ تحديدا لبدء دخوله عالمه السينمائي . فمنذ دخوله عالم السينما بل ومن قبلها بكثير كانت رغبته القوية بالاخراج تسيطر عليه طوال الوقت، حتي ادرك أنه أصبح يضيع وقته في العمل بالديكور، وقد حان الوقت أن يعمل ما أراده دائما، وبرؤية جديدة ومختلفة وجادة دون النظر الى امكانية تنفيذه ،  فبدأ عالمه الحقيقي  بكتابة فيلمه "المومياء" الذي استغرق كتابة السيناريو فقط عاما ونصف العام، مر خلال تلك الفترة بظروف مادية قاسية رغم العروض التى كانت تنهال عليه لتصميم الديكور، إلا أنه رفضها جميعها فكان عالمه متمحورا حول المومياء وكل شئ متعلق بها ، تاركا خلفه اي شئ آخر. وبعد الانتهاء من كتابة المومياء ، سعى عبدالسلام بالبحث عن امكانية تنفيذه ، فعرض على المخرج روسيليني السيناريو، فكان يعمل معه حينها ، أنبهر روسيليني بالسيناريو وأخذه فورا الى وزير الثقافة المصري تزكية واعتراف من مخرج عالمي قدير، بأهمية تنفيذه وبالفعل دخل السيناريو ضمن مشاريع مؤسسة السينما.

لعنة الفراعنة أصابت شادي عبدالسلام

على الرغم من انتهائه من كتابة سيناريو فيلمه "المومياء" إلا أنه تأثر كثيرا بعالم الفراعنة، فأستلهمته فكرة لفيلم قصير من بردية فرعونية عمرها حوالى أربعة آلاف سنة بأسم "شكاوي الفلاح الفصيح"، تدور حول العدالة وصراخ فلاح بسيط لاسترداد حقه .
استكمالا للمثلث التاريخي لشادي عبدالسلام يأتي فيلم "أخناتون" الذي كتبه وصممه ورسم مشاهده على الكرتون كعادته لقطة بلقطه، وكان كل همه البحث عن إيجاد منتج لهذا العمل، فقد ترك كل شئ حتى العمل فى السينما من أجل تحقيق حلمه فى هذا الفيلم ، مصرحا فى إحدى حوارته عن فترة توقفه تلك قائلا: ( أنا فى حالة عمل متواصل حول موضوع لا ينتهى، بل لا يمكن إيقافه ، فإذا لم أنجح في إيصاله إلى الشاشة يمكن أن يصبح كتابا مثلا أو محاضرات للتدريس، أي إنه يبقى عملا أستطيع إيصاله إلى الناس، وخاصة إن موضوعاتي لها علاقة بالتاريخ..).  والمؤسف حقا بأنه رحل عن عالمنا قبل أن يظهر هذا العمل الى النور حتى يومنا هذا.  
لم يكف عبدالسلام عن الكتابة والاخراج حيث قام خلال عامي 1974-1980 بإخراج أربعة أفلام تسجيلية قصيرة، بدأها فور استلامه لرئاسة مركز الفيلم التجريبي التابع لهيئة السينما، وهم (آفاق ـ 1974) وهو نموذج لأوجه النشاط الثقافي المختلف في مصر، وفيلم (جيوش الشمس ـ 1976) ويتناول العبور وحرب أكتوبر 73، ثم فيلم عن إحدى القرى الصغيرة التي تقع بالقرب من معبد أدفو الفرعوني في أسوان، كما قام بعمل فيلم مدته ثلاث دقائق ونصف عن ترميم واجهة بنك مصر.

مشاريع تعليمية

في عام 1982 عاد شادي عبدالسلام وبجعبته عدة مشاريع لأفلام تنتمي الى الفيلم التعليمي، الذي يخاطب العائلة المصرية بكافة أطيافها، حيث كان إعتقاده بأن الناس الذين نراهم فى الشوارع والمزارع والمصانع والبيوت لهم تاريخ فى صناعة الحياة البشرية بأكملها، و كيفية استعادة مساهمتهم الايجابية فى صنع الحياة والتقدم، فكانت تلك الأفلام بمثابة تقدير لمجهوداتهم وتجسيد لمعاناتهم الحقيقية حتى أصبحوا ما هم عليه الآن. فبدأ شادى بفيلم "الكرسي" وهو عبارة عن ترميم كرسي "توت عنخ أمون" ولكن بطريقة مزج ما بين الفيلم التسجيلي والروائي . وإضافة لآماله التى لم تتحقق حتى الآن سلسلة طويلة من الأفلام التعليمية الثقافية، والتي لا تخلو من المتعة والتسلية في نفس الوقت، منها فيلم عن رمسيس الثاني، وآخر عن بناة الأهرام، وفيلم عن أول عاصمة في التاريخ الفرعوني «نخن». كما فكر في تقديم «ماكبث» أسطورة شكسبير الخالدة، ولكن برؤية خاصة من خلال تاريخ المماليك في مصر.
اختفى شادي عبدالسلام فجأة عن الأنظار بعد إنتاج فيلم (الكرسي) عام 1982، وتوزيعه للإتحاد السوفييتي وأوروبا. إلى أن طالعتنا الصحف، عن خبر محزن للغاية، في يونيو من عام 1985، بأن فرعوننا موجود في مستشفى «تيفناو» السويسري، لإجراء عملية استئصال ورم خبيث، وهو المرض الذي توفي به وحرمه من تحقيق مشروع (أخناتون)، ومشاريع أخرى معلقة إلى الآن.
وإذا كانت هناك من كلمة أخيرة، فلا يسعنا إلا أن نقول بأن هذا المخرج القدير الذي عمل دون كلل أو ملل أو يأس، يحق لنا أن نسعى جاهدين أن نحقق أحلامه فى بعث مشاريعه للحياة من جديد، تكريما وتقديرا له على تلك الثروة الغالية والثمينة التي طالما أراد تنفيذها .

تقييم الموضوع

تعليقات Facebook


تعليقات البوابة الوثائقية