Meshes of the Afternoon التجريب والحقيقة خارج النمط
الأحد 18/أكتوبر/2015 - 12:35 م
أمل ممدوح
في إطار الورشة التي تنظمها البوابة وثائقية تحت عنوان "كيف تقرأ فيلمًا " والتي يحاضر فيها الناقد السنيمائي عصام ذكريا ، تكتب المشتركة أمل ممدوح عن فيلم ashes of the afternoon .
..............................................
عرفت السينما الطليعية منذ وقت مبكر خاصة ضمن ما عرف بالفيلم التجريبي مهما اختلفت مسمياته ، وهي نوعية شديدة البعد عن مسمى الفيلم التجاري كان المهتمون بها في بادىء الأمر قليلون التجاري ، وفيها يكون الفيلم أداة لمخرجه لاستكشاف الأبعد عن السطح المادي أو السطح الظاهر للعالم المعاش ، ومن بين أهم الأفلام الطليعية المبكرة الفيلم الروائي القصير ذو ال 14 دقيقة Meshes of the afternoon، بل إنه يعد مثالا حقيقيا للفيلم الطليعي ويصنف كواحد من أفضل خمسة أفلام تجريبية في تاريخ السينما في العالم ، وذلك رغم أنه إنتاج عام 1943 حيث كانت اهتمامات السينما العالمية مختلفة كثيرا ومنصبة على الأفلام الواقعية والرومانسية أو الكوميدية ، هو أحد أفلام المخرجة الأميركية الهامة مايا ديرين Maya Deren ذات الأصل الأوكراني السوفييتي بالاشتراك مع زوجها المخرج الأميركي المجري الأصل ألكسندر هاميد Alexander Hammid وهو أيضا بطولة كل منهما ، هذا الفيلم الذي يعني بالعربية " شظايا الظهيرة " أو " بؤر الظهيرة " ينسجم تماما مع اسمه ، فهو سيريالي أقرب لتداعيات الأحلام والمزج بينها وبين الواقع ، يصور امرأة تدور في دائرة من الأفعال المتكررة بشكل أو بآخر مع اختلافات معينة في كل مرة سواء في بعض مواقع التفاصيل وظهورها أو عدم ظهورها ، وتتكرر الأفعال أو المواقف بزوايا مختلفة وتكوين مختلف تضيف مع استمرار تكرارها معلومة جديدة تزيل بعض الغموض في النهاية بتراكمها وإن كانت تعقد الأمر لحظيا ، إنها امرأة نراها تتبع رجلا معظم الوقت ، رجلا يرتدي جلبابا ويغطي رأسه في زي أقرب لقسيس يشعرك بأنه شبح .. مع وردة نراها مرة معه وهو يسير ومرة معها وهي تسير خلفه ، وتلعب التفاصيل والوحدات البصرية المتكررة دورا هاما رمزيا واستدلاليا كالسكين والهاتف متدلي السماعة والوردة وتفاصيل الغرفة كالجريدة الملقاة على الأرض والسرير في الغرفة العليا ، وهذه الموتيفات إما تتغير أماكنها من مشهد لآخر كالسكين فمرة نراها على الطاولة ومرة على السرير ومرة في يد البطلة أو تختفي تماما من مكانها ، أو تبقى في مكانها لكن في وضع مختلف ، فالحقيقة ذات وجوه متعددة .
يحيك الفيلم السيريالي العبثي العلاقات بين المرئي واللامرئي .. والمتوقع وغير المتوقع ..والمنطقي وغير المنطقي ..وتلعب زوايا الكاميرا والتكوين دورا أساسيا في إيصال ذلك ، فمرة نجد البطلة تمشي مسرعة ومرة متتبعة أحدا أو شيئا بحذر ، ومرة نجدها تصعد السلم بشكل مائل عشوائي متخبط ومرة تهبط برأسها ويديها ..وكل ذلك يتماشى مع الإيحاء بعالم الأحلام وهواجسها وسيطرة اللاوعي .. فنحن نشعر أننا داخل حلم يدخلنا في حلم والحلم الجديد يسلمنا لآخر ، ووسط ذلك نجد تعبير البطلة في أغلب الوقت يدل على الدهشة والحذر والتتبع ، وبتتبع وربط الخيوط المتناثرة لفك شفرة الفيلم سنجد أن محور الفيلم الأساسي يتركز حول العلاقة بين الرجل والمرأة أو رجل ما وامرأة ما .. بحالاتهما وصراعاتهما ، فمرة نجد الرجل وسيما مبتسما وأخرى نجد له نظرات مريبة ومرة يحمل زهرة وأخرى يضع بجوارها سكينا ، فهناك تقلبا في العلاقة والإحساس بها كما هناك أيضا إشارة لانقسام نفسي فنفس المرأة نجدها ثلاثة نساء ..كل منهن تعيد سيناريو التتابع بشكل مختلف التفاصيل إلا ان التفاصيل تزداد عددا واتضاحا كل مرة ، قتلقى لنا بعض الدلالات الرمزية لفهم المعنى الكلي والضمني ، كأن نجد السكين تحول إلى مفتاح أو تحول المفتاح إلى سكين فوق يد ملوثة بالدماء أو السواد فالمعنى متقارب ، فبينما السكين هلاك فالمفتاح خلاص لكنهما قد يتحول كلاهما للآخر في لحظة ، فالعلاقات في إدارتها قد تكون سكينا أو مفتاحا ، كل ذلك يحمل معاني اللغز والتفكيك ثم محاولة الربط وان كانت تبدو عشوائية كالأحلام ، في النهاية فإن المرأة النائمة مقتولة تسيل منها الدماء وتتبعثر قطع المرآة بجوارها على شاطىء بحر بعد ذلك ، فما هو كائن الآن قد يتغير مع الحياة بسهولة كما يصبح النوم موتا ، والمرآة الحاملة لحقيقة شاهدتها قد تساهم في موتها ثم تبتلعها الحياة مع أمواج البحر ، فلا نعرف هل قتلت المرأة نفسها أم وقتلتها الهواجس ؟ أم أنه الرجل من قتلها ولم يكن مجرد هاجسا ؟ فالفيلم لا يقدم الحقيقة السهلة المعلبة بل تلك التي تحتاج بحثا قد يبدأ بالشك وتأمل ما وراء الأشياء ، وتبادل الأدوار بين المعقول واللامعقول ، فومضات أو شظايا الظهيرة وهو اسم الفيلم قد تعني أحلام اليقظة وربما الاستيقاظ من حلم ، وبالفعل تدور أحداث الفيلم كما يبدو من الإضاءة وغلبة الشمس في المشاهد الخارجية في فترة الظهيرة ، وقد أعطى المونتاج مع الزوايا الغريبة وغير المتوقعة في التصوير الإحساس بالجو السيريالي وعالم الحلم المسيطر على الفيلم ، كما لعب الظل والنور دورا أساسيا في تشكيلات الفيلم وتكوينات المشاهد بما يبرزه من علاقة بين الأصل وانعكاساته أو رمزية العلاقة بين الأصل والصورة ، من جهة أخرى بدت أغلب مشاهد الفيلم غير مركزية بل تهتم بأطراف الكادر وتصبح هي المسيطرة ، بما يعنيه ذلك من سيطرة الهامش على المركز والتفاصيل الجانبية على الحقيقة الكلية أو جوهر الحقيقة ، كما تعكس المناظير المتعددة لرؤية الشخصيات الرئيسية رأيا في كيفية قراءة الواقع الذي لا يجب أن يقرأ بشكل واحد ولا أن يصيغه منطق محدد له ، فغير المتوقع قد يكون وحده ما حدث ، وقد أبرزت ذلك حركة البطلة التي كثيرا ما تتأخر عن الحركة المتوقعة وإيقاعها المتوقع أو نجدها قد سبقت الحركة المتوقعة .
..............................................
عرفت السينما الطليعية منذ وقت مبكر خاصة ضمن ما عرف بالفيلم التجريبي مهما اختلفت مسمياته ، وهي نوعية شديدة البعد عن مسمى الفيلم التجاري كان المهتمون بها في بادىء الأمر قليلون التجاري ، وفيها يكون الفيلم أداة لمخرجه لاستكشاف الأبعد عن السطح المادي أو السطح الظاهر للعالم المعاش ، ومن بين أهم الأفلام الطليعية المبكرة الفيلم الروائي القصير ذو ال 14 دقيقة Meshes of the afternoon، بل إنه يعد مثالا حقيقيا للفيلم الطليعي ويصنف كواحد من أفضل خمسة أفلام تجريبية في تاريخ السينما في العالم ، وذلك رغم أنه إنتاج عام 1943 حيث كانت اهتمامات السينما العالمية مختلفة كثيرا ومنصبة على الأفلام الواقعية والرومانسية أو الكوميدية ، هو أحد أفلام المخرجة الأميركية الهامة مايا ديرين Maya Deren ذات الأصل الأوكراني السوفييتي بالاشتراك مع زوجها المخرج الأميركي المجري الأصل ألكسندر هاميد Alexander Hammid وهو أيضا بطولة كل منهما ، هذا الفيلم الذي يعني بالعربية " شظايا الظهيرة " أو " بؤر الظهيرة " ينسجم تماما مع اسمه ، فهو سيريالي أقرب لتداعيات الأحلام والمزج بينها وبين الواقع ، يصور امرأة تدور في دائرة من الأفعال المتكررة بشكل أو بآخر مع اختلافات معينة في كل مرة سواء في بعض مواقع التفاصيل وظهورها أو عدم ظهورها ، وتتكرر الأفعال أو المواقف بزوايا مختلفة وتكوين مختلف تضيف مع استمرار تكرارها معلومة جديدة تزيل بعض الغموض في النهاية بتراكمها وإن كانت تعقد الأمر لحظيا ، إنها امرأة نراها تتبع رجلا معظم الوقت ، رجلا يرتدي جلبابا ويغطي رأسه في زي أقرب لقسيس يشعرك بأنه شبح .. مع وردة نراها مرة معه وهو يسير ومرة معها وهي تسير خلفه ، وتلعب التفاصيل والوحدات البصرية المتكررة دورا هاما رمزيا واستدلاليا كالسكين والهاتف متدلي السماعة والوردة وتفاصيل الغرفة كالجريدة الملقاة على الأرض والسرير في الغرفة العليا ، وهذه الموتيفات إما تتغير أماكنها من مشهد لآخر كالسكين فمرة نراها على الطاولة ومرة على السرير ومرة في يد البطلة أو تختفي تماما من مكانها ، أو تبقى في مكانها لكن في وضع مختلف ، فالحقيقة ذات وجوه متعددة .
يحيك الفيلم السيريالي العبثي العلاقات بين المرئي واللامرئي .. والمتوقع وغير المتوقع ..والمنطقي وغير المنطقي ..وتلعب زوايا الكاميرا والتكوين دورا أساسيا في إيصال ذلك ، فمرة نجد البطلة تمشي مسرعة ومرة متتبعة أحدا أو شيئا بحذر ، ومرة نجدها تصعد السلم بشكل مائل عشوائي متخبط ومرة تهبط برأسها ويديها ..وكل ذلك يتماشى مع الإيحاء بعالم الأحلام وهواجسها وسيطرة اللاوعي .. فنحن نشعر أننا داخل حلم يدخلنا في حلم والحلم الجديد يسلمنا لآخر ، ووسط ذلك نجد تعبير البطلة في أغلب الوقت يدل على الدهشة والحذر والتتبع ، وبتتبع وربط الخيوط المتناثرة لفك شفرة الفيلم سنجد أن محور الفيلم الأساسي يتركز حول العلاقة بين الرجل والمرأة أو رجل ما وامرأة ما .. بحالاتهما وصراعاتهما ، فمرة نجد الرجل وسيما مبتسما وأخرى نجد له نظرات مريبة ومرة يحمل زهرة وأخرى يضع بجوارها سكينا ، فهناك تقلبا في العلاقة والإحساس بها كما هناك أيضا إشارة لانقسام نفسي فنفس المرأة نجدها ثلاثة نساء ..كل منهن تعيد سيناريو التتابع بشكل مختلف التفاصيل إلا ان التفاصيل تزداد عددا واتضاحا كل مرة ، قتلقى لنا بعض الدلالات الرمزية لفهم المعنى الكلي والضمني ، كأن نجد السكين تحول إلى مفتاح أو تحول المفتاح إلى سكين فوق يد ملوثة بالدماء أو السواد فالمعنى متقارب ، فبينما السكين هلاك فالمفتاح خلاص لكنهما قد يتحول كلاهما للآخر في لحظة ، فالعلاقات في إدارتها قد تكون سكينا أو مفتاحا ، كل ذلك يحمل معاني اللغز والتفكيك ثم محاولة الربط وان كانت تبدو عشوائية كالأحلام ، في النهاية فإن المرأة النائمة مقتولة تسيل منها الدماء وتتبعثر قطع المرآة بجوارها على شاطىء بحر بعد ذلك ، فما هو كائن الآن قد يتغير مع الحياة بسهولة كما يصبح النوم موتا ، والمرآة الحاملة لحقيقة شاهدتها قد تساهم في موتها ثم تبتلعها الحياة مع أمواج البحر ، فلا نعرف هل قتلت المرأة نفسها أم وقتلتها الهواجس ؟ أم أنه الرجل من قتلها ولم يكن مجرد هاجسا ؟ فالفيلم لا يقدم الحقيقة السهلة المعلبة بل تلك التي تحتاج بحثا قد يبدأ بالشك وتأمل ما وراء الأشياء ، وتبادل الأدوار بين المعقول واللامعقول ، فومضات أو شظايا الظهيرة وهو اسم الفيلم قد تعني أحلام اليقظة وربما الاستيقاظ من حلم ، وبالفعل تدور أحداث الفيلم كما يبدو من الإضاءة وغلبة الشمس في المشاهد الخارجية في فترة الظهيرة ، وقد أعطى المونتاج مع الزوايا الغريبة وغير المتوقعة في التصوير الإحساس بالجو السيريالي وعالم الحلم المسيطر على الفيلم ، كما لعب الظل والنور دورا أساسيا في تشكيلات الفيلم وتكوينات المشاهد بما يبرزه من علاقة بين الأصل وانعكاساته أو رمزية العلاقة بين الأصل والصورة ، من جهة أخرى بدت أغلب مشاهد الفيلم غير مركزية بل تهتم بأطراف الكادر وتصبح هي المسيطرة ، بما يعنيه ذلك من سيطرة الهامش على المركز والتفاصيل الجانبية على الحقيقة الكلية أو جوهر الحقيقة ، كما تعكس المناظير المتعددة لرؤية الشخصيات الرئيسية رأيا في كيفية قراءة الواقع الذي لا يجب أن يقرأ بشكل واحد ولا أن يصيغه منطق محدد له ، فغير المتوقع قد يكون وحده ما حدث ، وقد أبرزت ذلك حركة البطلة التي كثيرا ما تتأخر عن الحركة المتوقعة وإيقاعها المتوقع أو نجدها قد سبقت الحركة المتوقعة .