"رجل على سلك" يغير النظرة حول الفيلم الوثائقي
السبت 22/أغسطس/2015 - 11:32 م
إبتهال حسين
اعتدنا عن الأفلام الوثائقية سردها لحكاية تقليدية ، أو طرحها للقضايا الكبرى التي لها واقع قوى، إلا إننا أمام فيلما أختلف مقاييسه عن المقاييس المعتادة لرؤية التوثيق السينمائي، فالبطل لا يطرح قضية تشغل الناس كثيرا كما عودتنا الأفلام الوثائقية، وليس ثائرا أو رجل سياسة مثير للجدل أو زعيم مافيا؛ فلنذهب سويا لنتعرف على تفاصيل هذا الفيلم اللافت والغريب نسبيا.
ملامسة الغيوم فكرة تتحول لتوثيق
أتحفنا "جيمس مارش" المخرج البريطاني بالفيلم الوثائقي "رجل على سلك" (2008)، الذي نال العديد من الجوائز الكبرى، حيث يترجح الفيلم بين النخبوي والجماهيري، ومزيج بين رؤية مؤلف وسرد الواقعة. فأعتمد الفيلم في الأساس على كتاب بوتي " ملامسة الغيوم" To Reach the Clouds، الذي يعبر عن فكرة الفن من منظور السير على الحبال من ارتفاعات شاهقة. فقصة الفيلم هى تتبعا لمسيرة الفنان الفرنسي " فيليب بوتي "، حينما سار على حبل يربط بين برجي التجارة العالمية، الذي كان حديث العالم حينذاك، فكان الحدث الأغرب والشبه إنتحاري من وجه نظر العديد ولكن بتوثيق درامي وسرد حقيقي، كما نجح المخرج "مارش" في تتبع كافة التفاصيل الفاصلة لهذا الحدث من تحضيرات وأسرار تلك المهمة الخطيرة والممنوعة قانونيا في مدينة نيويورك.
لحظة وجودية فنان في عالم خرافي
"فيليب بوتي " هذا الفنان الذي يصر على أنه ينتمي لعالم الفن وليس بهلوانا كما يطلق عليه البعض، "بوتي" من مواليد 13 أغسطس 1949 ، بدأ حياته هاويا للألعاب الخطرة في شوارع وساحات باريس وأستأثرت مهاراته الخاصة فى جذب جمهوره من الشوارع قبل أن يتم عمل مهرجانات فنون الشوارع، وما لبس كثيرا حتى تخصص فى المشي على الحبال بين البنايات المرتفعة، ففي عام 1971، سار بالحبال بين البرجين الشهيرين لكنيسة نوتردام بباريس. وفي عام 1973 سار بين البرجين الذين يشدان جسر هاربور في سيدني في أستراليا، إلى أن كانت فعلته التالية التى استهلت الفيلم الوثائقي وهو السير بين برجي التجارة العالمية بمدينة نيويورك عام 1974. كانت بدايات "فيليب بوتي" مثله كمثل أغلبية الفنانين هامشيا ومغمورة ، إلا أنه سرعان ما لفت الأنظار إليه، بل وأستطاع أن ينشر مفهوم هوايته على أنها فنا ، رغم الانتقاضات اللاذعة التى وجهت على مثل تلك الألعاب، فمثله مثل الفنان الذي يصنع مشهده الذي لا هو فى الواقع ولا هو خارجه، هو أيضا يصنع مشهده المختلف ولكن من مشهد حقيقي، ليقتحم بذلك مجتمع المشهد من زاوية "الغرائبية الممكنة"، وهذا ما حاول المخرج أن يسلط الضوء عليه، وهو البعد الفلسفي لتصورات هذا الفنان .
وعند سؤاله في أحد الحوارات الخاصة عن معني أن نمشي فى السماء؟ وهل هذا إحدى معاني الحرية والتجرد من قوانين الحياة الجتماعية واليومية؟
وأجاب " بوتى " مؤكدا بأنها لحظة وجودية، فقد وصفها "بوتى" في الفيلم بأنها "عالم الخرافة".
الفن ممزوجا بالجنون
ناقش الفيلم البعد النفسي لهذا النوع من "الفن"، وطرح سؤالا نفسيا "هل بوتي على وعي ودراية أثناء السير على الحبال من ارتفاع شاهق، أم أنها لحظة لاواعية لأنها لا تستجيب للمنطق البشري لمكتنف بالخوف والموت ؟ وأجابت على هذا السؤال إحدى الشخصيات الهامة في الفيلم وهي "آني أليكسيس" (صديقة بوتي وزميلته في هذا الاختصاص وصاحبة تجربة في الميدان)، وأكدت أن، "تلك اللحظة هي فعلا لحظة يتحرك فيها اللاوعي الفردي لأن السائر على الحبل لو استحضر وعيه وعقله الذي يعيش به حياته الواقعية لفشل في مهمته".
لم يكتف المخرج بطرح تلك التساؤلات فقط، بل أقترب بأسئلته محولا أياها من أسئلة نفسية إلى فنية، فأستحضر المقولة الكلاسيكية الشهيرة بأن الفن ممزوجا بالجنون، فهناك آراء تعبر عن أن الفنان حينما يقدم على عمله الابداعي ، فهو يتحلل من قيوده النفسية والذهنية، ويسبح فى عالم الخيال والحرية البحتة.
" خير جنون الفن على تعاسة الإنسان خير الإبداع على الخراب والدمار "
كسر "فيليب بوتي" بفنه حاجز العقل والمنطق، وأصر من خلال هذا الفيلم على أنه أثناء سيره في السماء يسمع ويري ويتفاعل مع الطيور التى تطير حوله، ويسمع صراح مشجعيه من أسفل.
اللافت في هذا الفيلم أنه لم يناقش أو يعرض مطلقا لحادثة 11 سبتمبر 2001 ، على الرغم من المساحة الزمنية التي احتلها مشهد البرجين في الفيلم ، إلا أنها كلها كانت مادة أرشيفية سبقت ما حدث. وعلق الناقد السينمائي "بيتر كادل" عن ذلك قائلا : "لم يستعمل أي لقطة من ذلك اليوم الرهيب وركز على ما يسميه بوتي مجال الخرافة.. فأصبحت قصته بالتالي ميثولوجيا شعرية".
السير على برجين عالميين هو آخر ما وصل إليه بوتي من إبداع وسقوط البرجين بعد ذلك هو أقصى ما وصلت إليه الإنسانية من كارثة، فأختار المخرج أن يطير في السماء مع بطله على أن يسقط مع من سقط في ذلك اليوم المشؤوم . فمقولة "خير جنون الفن على تعاسة الإنسان خير الإبداع على الخراب والدمار." خير دليل على هذا الحدث.
من هنا قدم هذا الفيلم أسئلة الفن الحقيقة من خلال فن غير حقيقي بالمعنى التقني . وطرحت الأسئلة بغياب الحدث الكارثي 11 سبتمبر من الفيلم، كان خير حضور للحدث بقوة، وقالت عنه رفيقته "آني أليكس" :
بالنسبة إليه كان كل يوم جديد يمثل لحظة إبداع جديدة"..