عصام زكريا يكتب: نبيهة
الإثنين 22/يونيو/2015 - 03:27 م
عصام زكريا
لاحظت أن الكل ينادونها "نبيهة".. فقط، بدون ألقاب، الكبير والصغير، والمقربون منها ينادونها "نبوهة". الكل يتعامل معها كما أنها أختهم الصغيرة، بالرغم من أنها في ذلك الوقت كانت تقترب من الستين. من اللقاء الأول مع المخرجة نبيهة لطفي شعرت أنني أعرفها منذ سنوات. المؤكد أنني قرأت اسمهاقبل أن نلتقي، على الأقل في مقال إدوارد سعيد الشهير عن تحية كاريوكا، والذي يروي فيه عن مساعدة نبيهة له لكي يلتقي بالراقصة الشهيرة في بيتها بالقاهرة.
المؤكد أيضا أنني شاهدت نبيهة مرة أو مرتين في أحد التجمعات السينمائية التي نتردد عليها، لأن شكلها لم يكن غريبا علي.يكفي أن ترى نبيهة مرة فلا تنساها: قصيرة، بيضاء، بدينة، شعرها قصير دائما، صاحبة أنف قوقازي وعيون سوداء عميقة، وابتسامة ودودةتشعرك دائما، مهما كنت غريبا، أنك صاحب مكانة مميزة في قلبها
تعرفنا عليها، مجموعة من الزملاء وأنا، خلال مهرجان الاسماعيلية السينمائي عام 1995، منذ عشرين عاما بالضبط، وأذكر التاريخ جيدا لأن المهرجان توقف لعدة سنوات بعد هذه الدورة، قبل أن يقام مجددا عام 2001، بالإضافة إلى أن هذه الدورة كانت مليئة بالأحداث المثيرة والمهمة، فقد شاهدنا فيها أفلاما مثل "صبيان وبنات" ليسري نصر الله، و"حاجز بيننا" لخالد الحجر، و"أبيقوري الروح والجسد" لخالد عزت، وفيلم لا أذكر اسمه عن البغاء في مصر من انتاج المعهد العالي للسينما، من بين أفلام أخرى أثارت الجدل والنقاشات الحادة وقتها...وكان لنبيهة لطفي مساهمات وجولات في المناقشات التي أعقبت هذه الأفلام،وأحيانا كانت آرائها في منتهى الحدة.
بعد اسمها، فإن ثاني ملحوظة تعلق بذهنك حول نبيهة هي التناقض بين رقتها ووداعتها فيما يتعلق بالأمور الشخصية وبين الحماس إلى حد الغضب والشراسة فيما يتعلق بالأمور العامة، خاصة عندما تتعلق بالسياسة أو السينما.
اقتربت لسنوات من نبيهة لطفي وقضينا ساعات طويلة في مناقشات لا تنتهي حول كل شيء في الحياة، ثم فرقت بيننا السبل وأصبحنا نلتقي على فترات متباعدة، وفي كل مرة، مهما كان اللقاء قصيرا وعابرا، كنا نخوض مناقشةجديدة حول نفس الأمور القديمة وما يستجد فيها، وكثيرا ما كنا نختلف حتى يتصور المحيطون بنا أننا نتشاجر، ثم يفاجئون بنا ونحن نتبادل الضحكات والقبلات.
بعد أمي، كانت نبيهة لطفي هي المرأة الوحيدة التي شعرت في حضرتها بالبنوة،وقد أصبحت بالفعل بمثابة أمي الثانية لسنوات.
لا أنسى منزلها في العجوزة، حيث الكنب الذي تقوم بتغيير مكانه كل عدة أشهر،والمحاط بالزرع ورائحة الزنبق الذي تعشقه، واللوحات الأصلية المعلقة على الحائط لسيف وأدهم وانلي، والبيانو الموجود في الحجرة الصغيرة المطلة على الصالة، وأنواع الطعام اللبناني والمصري الخاصة بها وحدها، والتي تحرص على صنعها من الألف للياء، والسهرات الممتدة حتى الفجر بين حكايات الماضي وأحداث الحاضر وعالم الأفلام.
نبيهة لطفي، من مواليد برج الدلو، مثلي، وهو برج هوائي انفعالي كثير التقلبات، يقال أن مواليده يتآلفون ويتفاهمون معا أكثر من مواليد أي برج آخر، ومن بين كل مواليد الدلو الذين التقيت بهم وتفاهمت معهم، كانت نبيهة لطفي هي الدلو الأكثر قربا إلى قلبي وعقلي.
كانت نبيهة يسارية الهوى، ليبرالية الشخصية والمشاعر، تتعامل مع كل الطبقات بنفس الشخصية. أكثر ما يؤلمها في الحياة هو الظلم الذي تعرض له الفقراء والمهمشين، وأكثر ما تكره في الحياة الكذب والادعاء. قومية حتى النخاع، تعشق عبد الناصر، وتكره كامب ديفيد، وأمريكا، مثل معظم اليساريين...لكنها
على الناحية الأخرى غير متعصبة لليسار، البني آدم عندها قبل موقفه السياسي، تحب الحياة البورجوازية، وتجيد الاستمتاع بالتفاصيل الصغيرة لحياة المرفهين.
في السينما تحب الواقعية والأفلام الملتزمة سياسيا، ولكنها تعشق لويس بونويل، السيريالي، تختلف مع يوسف شاهين سياسيا، ولكنها تعشقه إنسانيا، والعكس مع صلاح أبو سيف.
ولدت نبيهة لطفي في صيدا بلبنان، وأتت لتستقر في مصر منذ الخمسينات، أنهت دراستها الجامعية، وكانت من أوائل الطالبات اللواتي درسن بمعهد السينما عند تأسيسه. منذ بداياتها بحثت نبيهة لطفي عن سينما جادة، جربت
العمل في السينما الروائية التجارية، ولم تجد نفسها فيها. تتلمذت على يد شادي عبدالسلام في مركز الفيلم التجريبي، وأصبح شادي صديقهاوأستاذها ومخرجها المفضل. ظلت تحلم لسنوات بصنع فيلم وثائقي عنه، وقضت السنوات الأخيرة من حياتها في صنع هذا
الفيلم، وخاضت في ذلك متاعب لا حصر لها، بسبب "الروتين" والعقبات الإدارية والمالية في الجهة الحكومية التي أنتجته، وهي المركز القومي للسينما،
وقبل أسابيع قليلة انتهت من عمل نسخة جديدة منه، أقصر زمنا، وأكثر تركيزا وتكثيفا. تاريخها الطويل في صناعة الأفلام لم يكن يمنعها من الاستماع للملاحظات والتفكير فيها بعمق والأخذ ببعضها حين تعتقد بوجاهتها.
في الشهور الأخيرة التقيت نبيهة لطفي بالصدفة في تجمعات مختلفة. كان المرض يتمكن منها تدريجيا، وراحت تذوي مثل شمعة يخبو ضوءها.
كانت نبيهة تشيع الحيوية والبهجة في أي مكان تظهر فيه، والذين يعرفونها لم يمكنهم حتمال رؤيتها بهذا الضعف والاكتئاب.
منذ أيام رحلت نبيهة لطفي.في اليوم التالي حاولت الوصول إلى الجنازة والدفن. كنت وحدي، وبعد قليل وجدت نفسي وسط مدافن السيدة عائشة تائها بين المقابر لأكثر من ساعة ونصف، كما لو كنت في واحدة من تلك المتاهات القديمة، أبحث عن جثمان نبيهة لطفي لألقي عليه النظرة الأخيرة هذه هي آخر ذكرى ستبقى معي من سيرتها المبهجة.
كم هي شاقة ومؤلمة هذه الحياة.
المؤكد أيضا أنني شاهدت نبيهة مرة أو مرتين في أحد التجمعات السينمائية التي نتردد عليها، لأن شكلها لم يكن غريبا علي.يكفي أن ترى نبيهة مرة فلا تنساها: قصيرة، بيضاء، بدينة، شعرها قصير دائما، صاحبة أنف قوقازي وعيون سوداء عميقة، وابتسامة ودودةتشعرك دائما، مهما كنت غريبا، أنك صاحب مكانة مميزة في قلبها
تعرفنا عليها، مجموعة من الزملاء وأنا، خلال مهرجان الاسماعيلية السينمائي عام 1995، منذ عشرين عاما بالضبط، وأذكر التاريخ جيدا لأن المهرجان توقف لعدة سنوات بعد هذه الدورة، قبل أن يقام مجددا عام 2001، بالإضافة إلى أن هذه الدورة كانت مليئة بالأحداث المثيرة والمهمة، فقد شاهدنا فيها أفلاما مثل "صبيان وبنات" ليسري نصر الله، و"حاجز بيننا" لخالد الحجر، و"أبيقوري الروح والجسد" لخالد عزت، وفيلم لا أذكر اسمه عن البغاء في مصر من انتاج المعهد العالي للسينما، من بين أفلام أخرى أثارت الجدل والنقاشات الحادة وقتها...وكان لنبيهة لطفي مساهمات وجولات في المناقشات التي أعقبت هذه الأفلام،وأحيانا كانت آرائها في منتهى الحدة.
بعد اسمها، فإن ثاني ملحوظة تعلق بذهنك حول نبيهة هي التناقض بين رقتها ووداعتها فيما يتعلق بالأمور الشخصية وبين الحماس إلى حد الغضب والشراسة فيما يتعلق بالأمور العامة، خاصة عندما تتعلق بالسياسة أو السينما.
اقتربت لسنوات من نبيهة لطفي وقضينا ساعات طويلة في مناقشات لا تنتهي حول كل شيء في الحياة، ثم فرقت بيننا السبل وأصبحنا نلتقي على فترات متباعدة، وفي كل مرة، مهما كان اللقاء قصيرا وعابرا، كنا نخوض مناقشةجديدة حول نفس الأمور القديمة وما يستجد فيها، وكثيرا ما كنا نختلف حتى يتصور المحيطون بنا أننا نتشاجر، ثم يفاجئون بنا ونحن نتبادل الضحكات والقبلات.
بعد أمي، كانت نبيهة لطفي هي المرأة الوحيدة التي شعرت في حضرتها بالبنوة،وقد أصبحت بالفعل بمثابة أمي الثانية لسنوات.
لا أنسى منزلها في العجوزة، حيث الكنب الذي تقوم بتغيير مكانه كل عدة أشهر،والمحاط بالزرع ورائحة الزنبق الذي تعشقه، واللوحات الأصلية المعلقة على الحائط لسيف وأدهم وانلي، والبيانو الموجود في الحجرة الصغيرة المطلة على الصالة، وأنواع الطعام اللبناني والمصري الخاصة بها وحدها، والتي تحرص على صنعها من الألف للياء، والسهرات الممتدة حتى الفجر بين حكايات الماضي وأحداث الحاضر وعالم الأفلام.
نبيهة لطفي، من مواليد برج الدلو، مثلي، وهو برج هوائي انفعالي كثير التقلبات، يقال أن مواليده يتآلفون ويتفاهمون معا أكثر من مواليد أي برج آخر، ومن بين كل مواليد الدلو الذين التقيت بهم وتفاهمت معهم، كانت نبيهة لطفي هي الدلو الأكثر قربا إلى قلبي وعقلي.
كانت نبيهة يسارية الهوى، ليبرالية الشخصية والمشاعر، تتعامل مع كل الطبقات بنفس الشخصية. أكثر ما يؤلمها في الحياة هو الظلم الذي تعرض له الفقراء والمهمشين، وأكثر ما تكره في الحياة الكذب والادعاء. قومية حتى النخاع، تعشق عبد الناصر، وتكره كامب ديفيد، وأمريكا، مثل معظم اليساريين...لكنها
على الناحية الأخرى غير متعصبة لليسار، البني آدم عندها قبل موقفه السياسي، تحب الحياة البورجوازية، وتجيد الاستمتاع بالتفاصيل الصغيرة لحياة المرفهين.
في السينما تحب الواقعية والأفلام الملتزمة سياسيا، ولكنها تعشق لويس بونويل، السيريالي، تختلف مع يوسف شاهين سياسيا، ولكنها تعشقه إنسانيا، والعكس مع صلاح أبو سيف.
ولدت نبيهة لطفي في صيدا بلبنان، وأتت لتستقر في مصر منذ الخمسينات، أنهت دراستها الجامعية، وكانت من أوائل الطالبات اللواتي درسن بمعهد السينما عند تأسيسه. منذ بداياتها بحثت نبيهة لطفي عن سينما جادة، جربت
العمل في السينما الروائية التجارية، ولم تجد نفسها فيها. تتلمذت على يد شادي عبدالسلام في مركز الفيلم التجريبي، وأصبح شادي صديقهاوأستاذها ومخرجها المفضل. ظلت تحلم لسنوات بصنع فيلم وثائقي عنه، وقضت السنوات الأخيرة من حياتها في صنع هذا
الفيلم، وخاضت في ذلك متاعب لا حصر لها، بسبب "الروتين" والعقبات الإدارية والمالية في الجهة الحكومية التي أنتجته، وهي المركز القومي للسينما،
وقبل أسابيع قليلة انتهت من عمل نسخة جديدة منه، أقصر زمنا، وأكثر تركيزا وتكثيفا. تاريخها الطويل في صناعة الأفلام لم يكن يمنعها من الاستماع للملاحظات والتفكير فيها بعمق والأخذ ببعضها حين تعتقد بوجاهتها.
في الشهور الأخيرة التقيت نبيهة لطفي بالصدفة في تجمعات مختلفة. كان المرض يتمكن منها تدريجيا، وراحت تذوي مثل شمعة يخبو ضوءها.
كانت نبيهة تشيع الحيوية والبهجة في أي مكان تظهر فيه، والذين يعرفونها لم يمكنهم حتمال رؤيتها بهذا الضعف والاكتئاب.
منذ أيام رحلت نبيهة لطفي.في اليوم التالي حاولت الوصول إلى الجنازة والدفن. كنت وحدي، وبعد قليل وجدت نفسي وسط مدافن السيدة عائشة تائها بين المقابر لأكثر من ساعة ونصف، كما لو كنت في واحدة من تلك المتاهات القديمة، أبحث عن جثمان نبيهة لطفي لألقي عليه النظرة الأخيرة هذه هي آخر ذكرى ستبقى معي من سيرتها المبهجة.
كم هي شاقة ومؤلمة هذه الحياة.