الفلاح الفصيح حدوتة مصرية
القصص التي اختارها شادي عبدالسلام ( 1930- 1986 ) في أفلامه هي حواديت مصرية، تحمل
الروائح والمذاقات والألوان المصرية، تماما مثل شكلها السينمائي، متتاليات بصرية
وسمعية وأدائية انفتحت على جماليات السينما الزاخمة آنذاك، لنرى في النهاية تجربة
سينمائية متفردة، في اختياراتها وقصصها وتعبيريتها.
بدأ شادي عبدالسلام حياته بعمل قريب من الموظفين، تكنيكي، تخصصي، مصمم
للديكور، ومساعد إخراج أحيانا، لكنه لم يكن موظف، كان فنانا صاحب رؤية، ومع مرور
الزمن، تشكلت تلك الرؤية.
ملامح تجربة شادي
تجربة شادي عبدالسلام لا تحمل عبق التاريخ المصري الموغل في القدم فقط،
ولكن عبق شخصيته هو، عبق تجربته، ففي أفلام كالفلاح الفصيح و والمومياء نجد أنفسنا
أمام تجربة عبقة ليست وليدة لحظتها، بقدر ما هي تراكم من الخبرات والاختبارات
الفنية السينمائية، والفكرية الحياتية، لقد حاول شادي في بداية حياته أن يعيش حياة
عملية، ويستثمر حبه لفن العمارة، ولكن قلبه كان متجها إلى الفن، لم تكن نفسه عالقة
بديكورات المنازل والصالونات بقدر ما كانت روحه شغوفة بتحويل تلك الإكسسوارات
والخطوط العمودية والأفقية والدائرية إلى لغة الرب، تتنكر لمعناها الدنيوي
والعملي، إلى المعنى الرؤيوي والنبوئي.
وقد ساعده ذلك في عمله السينمائي الأول كفنان ديكور، حيث لفت نظر المخرجين
بتفرد اختياراته، فانهالوا يطلبونه، حتى اختمرت رؤيته وآن أوان ظهورها للنور.
لازمة ومتلازمة
من اللافت انا ننجد تماهي بين شخصيات فيلم "الفلاح الفصيح" 1970م
والحيوانات، إنه وحماراه يتبادلان الخبرات
ذاتها، ويحملان المصير ذاته، وعندما ضرب حماره ضرب، وعندما رحل عن داره رحل.
والعصا التي في يده لا يستخدمها للضرب، ولكن للدفاع عن النفس، أو يطأ بها
الطريق، لتعينه على الطريق الصعب.
الأماكن التي اختارها عبدالسلام تحمل المعاني الروحية والنفسية لأصحابها،
حيث نجد الفلاح الفصيح في الشمس والصحراء، يمشي على قدميه، بينما الفرعون، على
كرسيه الذي يرفعه له الخدم، هو الوحيد الذي يحمل تلك العصا الآمرة، فهو لا يتكلم
أبدا، ولا يصدر منه صوت بشري، ولكننا لا نسمع منه غير صوت عصاه، التي تفرض النظام،
وتطالب أتباعه وخدمه ووزرائه، وهي التي تحكم بالعدل الذي ينشده الفلاح الفصيح.
إن الرجل الغني اللص يجلس في حديقة ظليلة، مليئة بالشجر والعشب، ولم يكن
ليحتمل أن يأتي حمار الفلاح الفصيح ويأكل منها ما يسد أوده، مجرد أن قضم قضمة من
عشبه، حتى ثار عليه خدمه، وانتزعوا من الفلاح الفصيح الحمارين.
كان لدى المصريون القدماء إيمانا مبدئيا يقول بأن مسائل الحكم والنظام خاصة
بفئة معينة من البشر، يحددهم خالق أو خالقو هذا الكون، لذا لم يفكروا أصلا
بمعارضتهم، والانتفاضة عليهم، ولكنهم يستحثون فيه صورة الفرعون العادل القوي
المستطيع.
لذا وفقا لهذه الثقافة التي هي ليست نتاج اختيارات المصريين فقط، ولكن محددات الطبيعة الجغرافية والاحتياجات البشرية للطعام والغذاء والجنس، والمتطلبات الإنسانية من عدل ورحمة، وقد اختار الفلاح الفصيح في وسط هذه الثقافة أن يقاوم الظلم، والفوضى، بالذهاب بنفسه إلى الحاكم، شارحا ظلم الإنسان في ظلمه، وواصفا صورة الفرعون العادل، وفقا للمحددات المذكورة سابقا، في صورة الفرعون الذي يخاطبه.
عندما نشاهد أفلام شادي عبدالسلام فإننا ينبغي أن نركز أكثر في الصورة، حتى أشد التفاصيل دقة وأكثرها خفاء، توصل الكثير مما يريد شادي عبدالسلام أن يوصله للناس.
الفلاح الفصيح
بطل الفيلم هنا ليس مبدعا ولا فنانا، أو خارقا في موهبته، وهو البطل المفضل
عند الأفلام الأمريكية، ولكنه مقهور، ينشد العدل، لا لحاجته ولمسألته، وهذا هو
الفارق في شخصية الفلاح الفصيح، إن القهر والظلم والاستبداد الذي وقع على الفلاح
المصري جعل مسعاه العدل، ليس له فقط ولكن لكل البشرية، المتمثلة في مجتمعه.
تبدأ قصة الفيلم بترك بيته وماشيا مع حماريه في خطوات صعبة وئيدة إلى
الفرعون، وكأن في رحلته تلك رحلة الإنسان المصري التي يحركها إحساسه بالظلم،
فيسافر البعض، ويقرأ البعض، بينما يتطرف البعض الآخر أو يتبلطج أو يبحث عن السلطة
التي تحميه.
لقد اختار الفلاح المصري الفصيح أكثر الاستجابات النفسية إبداعا وإنسانية،
في إطار الاختيارات المتاحة لظروف مجتمعه، اختار أن يحارب كل من يحاول الاعتداء
عليه، ويذهب إلى الفرعون نفسه ليخبره بما يجب أن يفعله، وما يجب أن يقيمه في هذه
الحياة.
شكاوى الفلاح وأدب السلطة
إذا نظرنا إلى شكاوى الفلاح الفصيح كأدب، وهي قصة حقيقية مأخوذة من بردية
قديمة، فإنها تنتمي إلى كل الأدب الموجه إلى السلاطين، فالفن في القرون الوسطى كان
يقام من أجل الدوقة والأمراء والأعيان الذين يحضرونه، وإلى وقت قريب في مصر نرى عبده
الحامولي وأم كلثوم وأحمد شوقي وغيرهم من مغنين وراقصات كانوا يضعون فنهم من أجل
الأعيان والأمراء.
والأدب العربي أيضا فيه نوع من قصائد المديح التي تصل إلى حد تأليه الخليفة
حتى يجني من خلف قصيدته الأموال.
إن أرقى الأشكال الخطابية إلى السلطات نجدها في حكم الفلاح الفصيح، يرسم فيها الصورة الكاملة للحاكم العادل، التي يجب أن يكون عليها، وينقل له بكلمات بليغة وبارعة صور ومشاعر المعاناة لمن يقع عليهم الظلم، هذه الصورتين تستفز في الحاكم إنسانيته ونرجسيته، إنه بشر وبداخله رحمة، وسلطان وبداخله زهرة النرجس، وإدراك الفلاح الفصيح كان عاليا، لم يسأل الفرعون أن يحل مشكلته مثلما يفعل كثير من المصريين، ولكن علمه كيف يكون عادلا، وضع له النموذج الأسمى للحاكم العادل، والتعبير الأبلغ عن معاناة المظلومين.
الاغتراب الجمالي والدلالي
جزء من جماليات الفن قائم على هذا الاغتراب، لا يوجد في هذا الفيلم أي نوع
من الإسقاط على الوضع الحاضر، وقد استخدم لغة جمالية تقول ذلك، اختار اللغة الفصحى
بدلا عن العامية، حتى المزرعة التي كان يستظل بها الغني السارق بعيدة عن غيطان
الفلاحين، الديكورات، والأزياء، والصمت الممتزج باللغة الفصحى، المشعر بريح
الصحراء، وضربات عصا الفرعون.
إن أفلام تاريخية مثل التي أخرجها يوسف شاهين مثل "الناصر صلاح
الدين"، و "المهاجر"، و "المصير"، باستخدام اللهجة
العامية، وأداء الشخصيات، وانتقاء الأحداث، وطريقة الحوار، لا يمكن ألا نفكر في
عبدالناصر عندما نشاهد صلاح الدين، أو بيوسف شاهين شخصيا في ابن رشد
"المصير"، المستنير الذي يعاني من الظلاميين، ويشعر بالتهديد الدائم على
حياته، أو رام "المهاجر" الذي ترك بلدته الفقيرة ليتعلم ويستنير، ويرجع
لبلده بالخير والعلم.
لن تجد فارقا شاسعا بين لغة شاهين الشخصية ولغة أبطاله النبلاء في
"المصير" و "المهاجر"، على النقيض من "الفلاح
الفصيح" لشادي عبدالسلام.
هذا "الاغتراب" الجمالي والدلالي في لغة فيلم "الفلاح
الفصيح" يجعلنا نشاهد الفيلم بروح عصره، وواقع عصره، لنعجب به أيما إعجاب،
ولكن دون أن نثمن اختياراته، وتعبيراته، في واقعنا وحياتنا الشخصية والعامة.
شادي فلاح مصر الفصيح
إن شادي عبدالسلام كان فلاحا فصيحا في حياته، ولكنه لم يرجع بالعدل كما رجع
الفلاح الفصيح، ليس دائما.
رجع شادي بالعدل بعد أن سمح له والده الفرعون أن يعمل في مجال السينما،
وكان رافضا في البداية، وأجبر على حل وسط أن يكون مهندسا معماريا، ولكنه لم يطق،
وفتح له الفرعون الإيطالي المجال واسعا عندما شجعه على فيلم المومياء، ولكن
الفرعون كان ظالما عندما أراد أن ينفذ مشروعه أفلام تعليمية تمزج النزعة التعليمية
النفعية بالجمالية السينمائية، ورفض الفرعون تمويل فيلمه الأخير أخناتون.
لقد بلغ به الشعور بالغبن والظلم أن قال لأحد الوكالات الإخبارية أنه يفكر
في تربية الدجاج ويعتزل السينما، كلمة تعكس السخرية المرة، من ثقافة مجتمع وسلطة
تعلي من قيمة بائع الدجاج أكثر من الفنان الكاتب والمخرج والمبدع.
إذا نظرنا في حياتنا الشخصية، وحيوات أصدقائنا، أو حراكنا الجماعي
الاجتماعي والسياسي، نجد أننا نمتثل للفرعون في خطواتنا، لابد أن يبارك الأب
خطوتنا، أو الرئيس، أو صاحب العمل إنها كلها تجليات للفرعون، وبقدر ما تضيق أفق
هذا الفرعون، بقدر ما تتردد خطوتنا، حتى انطلاقاتنا المتمردة على كل هؤلاء
الفراعين، غالبا ما تكون قصيرة الأمد، ليمد قصرها من أمد حضور الفرعون فينا.
بالطبع هناك استثناءات في خطواتنا وشخصياتنا، ولكنها استثناءات تعزز القاعدة ولا تخرقها، أو تفنيها.